ألهاكم التكاثر....فعودوا إلى الحق فالعودُ أحمدُ
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}
سورة الحديد (20).
التسابق نحو الرفاه أو نحو التفاخر ليس له نهاية
لأنّ النفس لا يستقر سرورها ورضاها طويلاً على شيء ألفته،
بل تمجه وتطلب غيره،
فكلّما قضت من مطلب وطراً تفتقت لها مطالب جديدة،
وتنقضي الحياة، وشهواتها لا تنقضي:
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}
سورة التكاثر.
ذلك لأن النفس لا نهاية لطاقاتها،
فباستطاعتها أن تبتلع لذة الوجود من غير أن تشبع،
أو من غير أن تروي طاقاتها اللا متناهية.
أما الله تعالى فقد أعد لها تلك الطاقات الهائلة،
لترتوي من معينه الذي لا ينضب، ومن جماله وجلاله وعلمه ورحمته.
وفي الحديث القدسي:
«ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء»
لذا إنْ أطاع الإنسان نفسه وأراد إشباعها من شهوات الدنيا،
فإنه يتردى، من غير أن يحقق لها إلا يسيراً من لذائذ الشقاء والضجر
والسأم والضنك ويحسب أن فيها سعادته
والحقيقة أنها لا تخلصه من شقائه ولا يزداد إلا ضنكاً وهمّاً.
وبذلك التسابق نحو الرفاه، تأخذ الحياة بالتعقيد بدل التبسيط،
والشقاء بدل السعادة، ويكون السبب في هذا هم المترفون
الذين أفسدوا الحياة على الفقراء، بما أحدثوه من زخرف وزينة،
ونتيجة لهذا الفساد، تفسد الضمائر، وتفسد القيم، ويصبح همُّ الناس جمع المال
ليحققوا به شهواتهم ورغائبهم ولا يهمهم من أي طريق جُلِب،
ليكونوا كأمثال من فاقوهم بالترف أو ليتعالوا على من دونهم فيفسدوا قلوبهم ومعيشتهم.
إذاً، فإن الحضارة قد جلبت للناس شقاء وبؤساً،
وولَّدت في نفوسهم حقداً وألماً، واستطاعت أن توقع بينهم العداوة،
لا سيما بين المترفين والمحرومين،
فالمترفون يزدادون غنىً وتسلطاً واستغلالاً،
والمحرومون يزدادون فقراً وعبودية وحقداً وإذلالاً.
ولا عجب عندئذ أن يتكتل الفقراء ضد الأغنياء،
ليسقوهم الكأس نفسه الذي سقوهم منه.
ولكن هؤلاء الفقراء الذين حلوا محل ساداتهم،
لا بدّ أن يعيشوا بعد حين بالعقلية ذاتها التي كانت لساداتهم،
لأن الغاية التي قاتلوا من أجلها، هي نفسها التي تسنموا ذروتها.
فضلاً عن ذلك، فإن كثرة المتطلبات الحضارية،
تجعل الإنسان بخيلاً نحو نفسه ونحو ذويه،
ولا يفعل من المعروف إلا قليلاً، وعدم فعل المعروف،
يعتبر من الأسباب الهامة في تقطيع أواصر المجتمع،
وفقدان المحبة فيما بينهم.
ومهما يكن من أمر فإنّ الأزمة الروحية والخلقية في كل حضارة،
لن تُحَلَّ إلا بالقضاء على مسبباتها، وهذا يعني الرجوع إلى شرعة الله،
وامتثال أوامره، لأنها هي الشرعة الوحيدة التي تنقذنا من شقاء الدارين.
والتي أنقذت الصحب الكرام ومن تابعهم،
من أجل ذلك حذر سبحانه وتعالى على لسان رسله
من الاستغراق والتوغل في الدنيا لتمحيص طاقاتنا كلها،
حتى لا نخسر الآخرة الباقية، وطلب إلينا أن نمشي في مناكبها،
أي في أطرافها لا أن نغوص في أعماقها
قال تعالى:
{..فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}
سورة الملك (15).
لأن التوغل كما رأينا، وكما نعيشه الآن في هذا العصر،
يحدث في الأرض الفساد،
وإذا فسد الشيء، يصبح ضرره أكثر من نفعه،
إن لم نقل لم يعد له نفعٌ أبداً.
لم يقتصر إفساد الحضارة على أحوال المعيشة والأخلاق فحسب،
بل إنها تفسد علينا طريق الوصول إلى سعادتنا الأبدية،
أو الغاية التي خلقنا الله من أجل تحقيقها.
اقتبسنا لكم هذا البحث من علوم فضيلة العلامة الكبير محمد أمين شيخو