شُيعت جنازة الراحل زكريا محيي الدين من مسجد آل رشدان بمدينة نصر، وتقدم الجنازة العسكرية المشير حسين طنطاوي رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، واللواء مراد موافى مدير جهاز المخابرات العامة، وكمال الجنزورى رئيس الوزراء، واللواء محمد إبراهيم وزير الداخلية، والدكتور أحمد فهمي رئيس مجلس الشورى، والدكتور على صبري وزير الدولة للإنتاج الحربي، وعدد من كبار القادة والشخصيات العامة والمسئولين التنفيذيين.
كان زكريا محيي الدين الزعيم الروحي لحزب التجمع، ورئيس وزراء مصر الأسبق في عهد الرئيس جمال عبد الناصر قد توفي أمس الاثنين عن عمر يناهز 94 عاما.
تأتي أهمية السيد زكريا محيي الدين من أنه بالرغم من كونه لعب أدوارا هامة في مسيرة الثورة, إلا أنه حرص تماما منذ خروجه الاختياري من السلطة عقب هزيمة يونيو1967 وقرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعدم تنحيه عن الرئاسة في10 يونيو1967 بوقت قصير علي اعتزال العمل العام وتجنب أي أحاديث إعلامية أو صحفية أو كتابة مذكراته, وهو الاستثناء الوحيد ممن بقوا علي قيد الحياة من قادة ثورة يوليو بعد وفاة الرئيس الراحل عبد الناصر عام1970 الذي اتبع هذا النهج، والتزم به بالرغم من محاولات حثيثة لإثنائه عن قراره هذا وإقناعه بالبوح بأسرار الثورة.
وقد ذكر الراحل لأحد مقربيه عن أسباب احتجابه الطوعي عن الإدلاء بمعلومات أو رواية مذكرات عن أحداث الثورة, أنه يخشي أن يعرض رؤي تكون غير مكتملة, باعتبار أنه ربما يكون ما لديه هو جزء من الحقيقة فقط, وليس الصورة الكاملة, وقد يكون لدى آخرين جوانب أخرى لا يعلمها هو تغير من الحكم النهائي علي الواقعة، كذلك لم يشأ زكريا محيي الدين الإساءة إلي أحد عبر رواية مذكرات قد تسئ إلي أشخاص بشأن واقعة بعينها بالرغم من أن إجمالي دور هؤلاء الأشخاص في مسيرة الثورة قد يكون إيجابيا.
زكريا "غلاء" الدين
ربطت الراحل مع الرئيس عبدالناصر علاقة خاصة وتمتع بثقته، حيث اختاره الرئيس لتولي مسئولية تأسيس ورئاسة أول جهاز وطني مستقل للمخابرات في تاريخ مصر, وذلك بعد أشهر من نجاح ثورة23 يوليو, وتحديدا في عام1953, ولم تكن المهام المنوطة بهذا الجهاز- الذي كان يعرف حينذاك باسم "الإدارة" - من النوع المعتاد لأي جهاز مخابرات في العالم - بل فاقت ذلك بكثير, فكان منوطا به قيادة وتوجيه المقاومة ضد الاحتلال البريطاني في منطقة قناة السويس بهدف ممارسة الضغوط علي بريطانيا علي مائدة التفاوض للقبول بالانسحاب الكامل من مصر, حتى تم بالفعل التوقيع علي اتفاقية الجلاء وتم بالفعل انسحاب آخر جندي بريطاني من مصر في18 يونيو 1956 ثم ما لبثت المخابرات العامة المصرية أن عادت لقيادة المقاومة ضد العدوان الثلاثي علي مصر حتى تم الجلاء الثاني في23 ديسمبر 1956.
لُقب الراحل بـ"رجل المهام الصعبة"، فكلما تعقدت الأمور في مجال ما أو مرحلة كان الرئيس الراحل عبد الناصر يلجأ لتكليف السيد زكريا محيي الدين بالملف الشائك وتجاوز المراحل الصعبة, ومن أمثلة ذلك تكليفه بتشكيل الوزارة عام1965, في وقت كانت عديد من الملفات تتعقد فيه, ما بين الوضع الاقتصادي الداخلي والأوضاع في اليمن وحدوث توترات جدية في العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وغير ذلك.
وأمام كل هذه المواقف كان محيي الدين يتمتع بالشجاعة التي أهلته أيضا لاتخاذ عديد من القرارات الصعبة ولكن الضرورية, بالرغم من عدم شعبية بعض هذه القرارات أحيانا, ولكن كان دافعه دائما هو مصلحة الوطن، مثل قراراه برفع جزء من الدعم عن بعض المواد الاستهلاكية، الأمر الذي نتج عنه ارتفاع أسعار بعض المواد التموينية بواقع قرش صاغ أو قرشين، وثارت الجماهير وهتفت ضده، وأطلقوا عليه "زكريا غلاء الدين".
يسجل التاريخ لزكريا محيي الدين أنه استطاع خلال رئاسته للحكومة التي لم تستمر أكثر من 11 شهرا أن يضع لمصر أول خطة خمسية للتنمية وأن يعقد مؤتمر الإنتاج الأول الذي دعا منه كل رؤساء شركات القطاع العام إلي مجلس الأمة لوضع أسس تطوير الإنتاج، كما عقد أول مؤتمر للإصلاح الحكومي وكان يهدف منه إلي إصلاح الأداء الحكومي والابتعاد عن البيروقراطية .
لثقة عبدالناصر به، اختاره لخلافته عندما قرر التنحي عقب هزيمة 5 يونيو1967 وأعلن ذلك يوم9 يونيو1967, لكن محيي الدين اعتذار علانية عن هذا الاختيار إخلاصاً للرئيس عبدالناصر، يقول الكيميائي محمد زكريا الابن الوحيد للراحل: "..هو نفسه لم يكن يتصور أحدا بديلا لناصر، ولم يكن ساعيا للمنصب"، وقام بتسجيل البيان الرافض لهذا المنصب بصوته في منزل عبد الناصر بمنشية البكري علي الجهاز الخاص بخالد عبد الناصر لكن تأخرت إذاعة البيان حتى فجر اليوم التالي.
وقال الراحل أن عبدالناصر لم يخبره بهذا القرار قبل أن يعلنه أمام الشعب، وأنه فوجئ به مثل ملايين المصريين الذين شاهدوه علي شاشة التليفزيون، قائلاً: كان من الصعب جدا أن أصبح رئيسا للجمهورية وأتحمل أخطاء لم أشارك فيها من قريب أو بعيد.
الراحل وثورة يوليو
من الأمور القليلة التي رواها الراحل كانت عن بدايات ثورة يوليو، وقال أن جمال عبدالناصر كان يصدر توجيهاته إلى الأفرع المختلفة في القوات المسلحة والتي يوجد بها الضباط الأحرار، وكان لكل واحد منا دوره حسب التكليفات الصادرة لنا والمتفق عليها بيننا من قبل وبعد ذلك انتقلنا جميعا إلى مقر قيادة الأركان بعد أن قام يوسف صديق بالاستيلاء عليه وألقى القبض على جميع قيادات الجيش الموالية للملك.
يواصل: كانت التوجيهات قد صدرت إلى يوسف صديق بالتوجه بقوته العسكرية إلى مبني قيادة الأركان في ساعة زمنية محددة، ولكنه ذهب قبل الموعد بساعتين وكان هذا انجازا كبيرا من يوسف صديق فقد كانت قيادة الأركان في اجتماع بكل قادتها لاتخاذ قرار بمواجهة ثورة الضباط الأحرار، واقتحم يوسف صديق مكتب قائد الأركان بقواته وأطلق بعض الطلقات النارية من مدفعه الرشاش واستولي علي قيادة الجيش، ولقد أدينا التحية العسكرية إلى قائد الأركان ومساعديه من القادة قبل أن نلقي القبض عليهم ويتم ترحيلهم إلي السجن الحربي.
ويضيف السيد زكريا محيي الدين: كان أنور السادات مكلفا بقطع خطوط التليفونات عند الاستيلاء علي مقر قيادة الجيش حتى يمنع الاتصال بين القادة وفروع القوات المسلحة، ولكن السادات لم يحضر وكان في هذه الليلة يشاهد فيلما في أحد دور السينما وعندما عاد إلى بيته متأخرا لحق بنا في مبني القيادة وقد أوقفته حراسة المبني حتى سمحنا له بالدخول، واكتشفنا أن عدم قطع خطوط التليفون كان أفضل حيث بدأنا الاتصال بمواقع الجيش واتخذنا إجراءات السيطرة الكاملة علي كل مواقع القوات المسلحة، وهنا فقط تأكد لنا نجاح الثورة.
كانت مطالبنا قليلة – يواصل - ولكن موافقة الملك فاروق علي كل شيء أغرتنا بمزيد من المطالب حتى وصلنا إلي قرار إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية وترحيل الملك خارج البلاد.
حين سئل الراحل زكريا محيي الدين عن التجاوزات التي ارتكبتها الثورة ورأيه بها، قال أنه لا يستطيع إنكارها أو تجاهلها، لكن الظروف فرضت الكثير منها، قائلاً: مازلت اذكر مقولة النحاس باشا "أن الثورة مثل وابور الزلط وليس من الحكمة أن يقف احد أمامها"، ولا أنكر أن للثورة تجاوزات ولكن لها ايجابيات غيرت أشياء كثيرة في مصر.
انضم زكريا محيي الدين إلى تنظيم الضباط الأحرار قبل قيام الثورة بحوالي ثلاثة أشهر، وكان ضمن خلية جمال عبد الناصر. شارك في وضع خطة التحرك للقوات وكان المسئول علي عملية تحرك الوحدات العسكرية وقاد عملية محاصرة القصور الملكية في الإسكندرية وذلك أثناء تواجد الملك فاروق الأول بالإسكندرية.
زكريا ومحمد نجيب
هاجم الراحل محمد نجيب ووصفه بأن دوره في الثورة هامشي، قائلاً: "..لم يكن لمحمد نجيب دور أساسي في الثورة، لقد جئنا به كواجهة لهذه الثورة، كان من الصعب علينا وجميعنا من الرتب العسكرية الصغيرة أن نظهر أمام الناس بدون رجل كبير في السن والرتبة، إن السن شيء ضروري في مجتمعنا وهو من مظاهر التقدير والاحترام، وكانت هذه هي نقطة البداية في اختيارنا للواء محمد نجيب لكي يكون واجهة للثورة، ولكن اختلاف الأجيال بعد ذلك وطريقة الحوار والتفكير, كل ذلك ترك ظلالا بيننا وبين اللواء نجيب، كنا شبابا أكثر حماسا واندفاعا بحكم السن والتجربة وكان من الصعب أن يستمر التعاون بيننا وبين نجيب".
تجدر الإشارة إلى أن محمد نجيب شعر باستهانة أعضاء مجلس قيادة الثورة به، عندما تم تعيين جمال سالم وزيرا للمواصلات وزكريا محيى الدين وزيرا للداخلية ليتفرغ عبدالناصر لمنصبه نائبا لرئيس الوزراء، دون موافقته، وقد رفض الوزيران أداء اليمين أمامه، وفقا لما ذكره فى مذكراته.
بطاقة تعارف
ولد الراحل في 5 يوليو عام 1918في كفر شكر بمحافظة القليوبية، تلقى تعليمه الأولي في إحدى كتاتيب قريته، ثم انتقل بعدها لمدرسة العباسية الابتدائية، ليكمل تعليمة الثانوية في مدرسة فؤاد الأول الثانوية. التحق بالمدرسة الحربية في 6 أكتوبر عام 1936، ليتخرج منها برتبة ملازم ثاني في 6 فبراير1938. وتخرج محيي الدين من كلية أركان الحرب عام 1948.
تولي محيي الدين منصب مدير المخابرات الحربية بين عامي 1952و 1953، ثم عين وزيراً للداخلية عام 1953، أُسند إليه إنشاء جهاز المخابرات العامة المصرية من قبل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في 1954، ثم عين بعد ذلك وزيراً لداخلية الوحدة مع سوريا 1958. تم تعيينه رئيسا للجنة العليا للسد العالي في 26 مارس 1960.
قام الرئيس جمال عبد الناصر بتعيين زكريا محيي الدين نائباً لرئيس الجمهورية للمؤسسات ووزيراً للداخلية للمرة الثانية عام 1961، وفي عام 1965 أصدر قراراً بتعيينه رئيسا للوزراء ونائبا لرئيس الجمهورية، قدم محيي الدين استقالته، وأعلن اعتزاله الحياة السياسية عام 1968.