مكاشفه القلوب للغزالى
القبر وسؤاله
قال رسول الله " صلي الله عليه وسلم " : ( يقول القبر للميت حين يوضع فيه : ويحك يا ابن آدم . ما غرك بي ؟ ألم تعلم أني بيت الفتنة وبيت الظلمة وبيت الوحدة وبيت الدود ؟ ما غرك بي إذ كنت تمر بي فذاذاً . فإن كان مصلحاً أجاب عنه مجيب للقبر ، فيقول : أرأيت إن كان يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ؟ فيقول القبر : إني إذا أتحول عليه خضراً ويعود جسده نوراً ، وتصعده روحه إلي الله تعالي ) . والفذاذ هو الذي يقدم رجلاً ويؤخر أخري . هكذا فسره الراوي .
وقال عبيد بن عمير الليثي : ليس من ميت يموت إلا نادته حفرته التي يدفن فيها : أنا بيت الظلمة والوحدة والانفراد . فإن كنت في حياتك لله مطيعاً كنت عليك اليوم رحمة ، وإن كنت عاصياً فأنا اليوم عليك نقمة . أنا الذي من دخلني مطيعاً خرج مسروراً ، ومن دخلني عاصياً خرج مثبوراً .
( ص 178 )
وقال كعب : إذا وضع العبد الصالح في القبر احتوشته أعماله الصالحة : الصلاة والصيام والحج والزكاة والجهاد والصدقة ، وقال : فتجيء ملائكة العذاب من قبل رجليه ، فتقول الصلاة : إليكم عنه فلا سبيل لكم عليه ، فقد أطال بي القيام لله عليهما .
فيأتونه من قبل رأسه فيقول الصيام : لا سبيل لكم عليه ، فقد أطال ظمأه لله في دار الدنيا فلا سبيل لكم عليه .
فيأتونه من قبل جسده ، فيقول الحج والجهاد : إليكم عنه ، فقد أنصب نفسه وأتعب بدنه وحج وجاهد لله فلا سبيل لكم عليه .
قال : فيأتونه من قبل يديه ، فتقول الصدقة : كفوا عن صاحبي ، فكم من صدقة خرجت من هاتين اليدين ، حتى وقعت في يد الله تعالي ابتغاء وجهه فلا سبيل لكم عليه .
قال : فيقال له : هنيئاً . طبت حياً وطبت ميتاً . قال : ويأتيه ملائكة الرحمة فتفرش له فراشاً من الجنة ودثاراً من الجنة ، ويفسح له في قبره مد بصره ويؤتي بقنديل من الجنة فيستضيء بنوره إلي يوم يبعثه الله من قبره .
( ص 179)
وقال أبو هريرة : قال النبي " صلي الله عليه وسلم " : ( إن المؤمن في قبره لفي روضة خضراء ، ويرحب له في قبره سبعون ذراعاً ، ويضيء حتى يكون كالقمر ليلة البدر ، هل تدرون في ماذا أنزلت ( فإن له معيشة ضنكاً ) ( طه آية : 124 ) قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ( في عذاب الكافر في قبره ، يسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً . هل تدرون ما التنين ؟ تسعة وتسعون حية ، لكل حية سبعة رؤوس ، يخدشونه ويلحسونه وينفخون في جسمه إلي يوم يبعثون ) .
ولا ينبغي أن يتعجب من هذا العدد علي الخصوص ، فإن عدد هذه الحيات والعقارب بعدد الأخلاق المذمومة من الكبر والرياء والحسد والغل والحقد وسائر الصفات ، فإن لها أصولاً معدودة ثم تتشعب منها فروع معدودة ، ثم تنقسم فروعها بأقسام ، وتلك الصفات بأعيانها هي المهلكات ، وهي بأعيانها تنقلب عقارب وحيات . فالقوى منها يلدغ لدغ التنين ، والضعيف يلدغ لدغ العقرب ، وما بينهما يؤذي إيذاء الحية .
وأرباب القلوب والبصائر يشاهدون بنور البصيرة هذه المهلكات ، وانشعاب فروعها ، إلا أن مقدار عددها ما لا يوقف إلا بنور النبوة ، فأمثال هذه الأخبار لها ظواهر صحيحة ، وأسرار خفية ، ولكنها عند أرباب البصائر واضحة ، فمن لم تنكشف له حقائقها ، فلا ينبغي أن ينكر ظواهرها ، بل أقل درجات الإيمان : التصديق والتسليم . ( ص 181 ، 182 ) .
_________________
اللهم كما علمت آدم علمنا وكما فهمت سليمان فهمنا
اللهم كما أتيت داود وسليمان علماً علمنا
والحمد لله الذى فضلنا على كثير من خلقه تفضيلا