الرياضة وفضل أهل الكرامة
اعلم أن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه ، ف - للغزالى من كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه ، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج ، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم يري أحدهم القذي في عين أخيه ، ولا يري الجزع في عين نفسه ، فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق :
الطريق الأول : أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس ، مطلع علي خفايا الآفات ، ويحكمه في نفسه ، ويتبع إشاراته في مجاهدته ، وهذا شأن المريد مع شيخه ، والتلميذ مع أستاذه ، فيعرف أستاذه وشيخه عيوب نفسه ، ويعرفه طريق علاجه ، وهذا قد عز في هذا الزمان وجوده .
الطريق الثاني : أن يطلب صديقاً صدوقاً ، بصيراً متديناً ، فينصبه رقيباً علي نفسه ليلاحظ أحواله وأفعاله ، فما كره من أخلاقه وعيوبه الباطنة والظاهرة ينبهه عليها ، وهكذا كان يفعل الأكياس والأكابر من أئمة الدين .
الطريق الثالث : أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه ، فإن عين السخط تبدي المساويء . ولعل انتفاع الإنسان بعدو مشاحن يذكره عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن ، يثني عليه ويمدحه ويخفي عنه عيوبه إلا أن الطبع مجبول علي تكذيب العدو ، وحمل ما يقوله علي الحسد ، ولكن البصير لا يخلو عن الانتفاع بقول أعدائه ، فإن مساوئه لابد وأن تنتشر علي ألسنتهم . ( ص 270،269،268 )
الطريق الرابع : أن يخالط الناس ، فكل ما رآه مذموماً فيما بين الخلق فليطالب نفسه به وينسبها إليه ، فإن المؤمن مرآة المؤمن ، فيري من عيوب غيره عيوب نفسه ، ويعلم أن الطباع متقاربة في اتباع الهوى ، وما يتصف به واحد من الأقران لا ينفك القرن الآخر عن أصله أو عن أعظم منه أو عن شيء عنه ، فليتفقد نفسه ويطهرها عن كل ما يذمه من غيره ، وناهيك بهذا تأديباً ، فلو ترك الناس كلهم ما يكرهونه من غيرهم لاستغنوا عن المؤدب .
قيل لعيسى عليه السلام : من أدبك ؟ قال : ما أدبني أحد ، رأيت جهل الجاهل شيئاً فاجتنبته .
وقال " صلي الله عليه وسلم " : ( المؤمن بين خمس شدائد : مؤمن يحسده ، ومنافق يبغضه ، وكافر يقتله ، وشيطان يضله ، ونفس تنازعه ) فبين أن النفس عدو منازع ، يجب عليه مجاهدتها .
ويروي : أن الله تعالي أوحي إلي داود عليه السلام : يا داود حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات ، فإن القلوب المتعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة .
وقال نبينا " صلي الله عليه وسلم " لقوم قدموا من الجهاد : ( مرحباً بكم قدمتم من الجهاد الأصغر إلي الجهاد الأكبر ) قيل : يا رسول الله وما الجهاد الأكبر ؟ قال : جهاد النفس .
وقال يحيي بن معاذ الرازي : جاهد نفسك بأسياف الرياضة . والرياضة علي أربعة أوجه : القوت من الطعام ، والغمض من المنام ، والحاجة من الكلام ، وحمل الأذي من جميع الأنام ، فيتولد من قلة الطعام موت الشهوات ومن قلة المنام صفو الإرادات ، ومن قلة الكلام السلامة من الآفات ،ومن احتمال الأذي البلوغ إلي الغايات . وليس علي العبد شيء أشد من الحلم عند الجفاء ، والصبر والأذي ، وإذا تحركت من النفس إرادة الشهوات والآثام ، وهاجت منها حلاوة فضول الكلام جردت عليها سيوف قلة الطعام من غمد التهجد وقلة المنام ، وضربتها بأيدي الخمول ، وقلة الكلام حتى تنقطع عن الظلم والإنتقام ، فتأمن من بوائقها من بين سائر الأنام ، وتصفيها من ظلمة شهواتها فتنجو من غوائل آفاتها ، فتصير عند ذلك نظيفة ونورية خفيفة روحانية ، فتجول في ميدان الخيرات ، وتسير في مسالك الطاعات ، كالفرس الفارة في الميادن ، وكالملك المتنزه في البستان .
وقال أيضاً : أعداء الإنسان ثلاثة : دنياه ، وشيطانه ، ونفسه . فاحترس من الدنيا بالزهد فيها ، ومن الشيطان بمخالفته ، ومن النفس بترك الشهوات .
وقال بعض الحكماء : من استولت عليه النفس صار أسيراً في حب شهواتها محصوراً في سجن هواها ، مقهوراً مغلولاً ، زمامه في يدها ، تجره حيث شاءت ، فتمنع قلبه من الفوائد . ( ص 272،271،270)
_________________
اللهم كما علمت آدم علمنا وكما فهمت سليمان فهمنا
اللهم كما أتيت داود وسليمان علماً علمنا
والحمد لله الذى فضلنا على كثير من خلقه تفضيلا