34- التدبير في شأن الرزق
فصل: كنت قد وعدنا بأنا نفرد للتدبير في شأن الرزق بابا، وذلك: أن أكثر دخول التدبير على القلوب من جهته.
فاعلم أن سلامة القلوب من التدبير في شأن الرزق، منة عظمى لا يسلم منها إلا الموفقون الذين صدقوا الله في حسن الثقة، فاطمأنت قلوبهم إليه، وتحققوا بالتوكل عليه، حتى لقد بعض المشايخ: (احكموا إلى أمر الرزق ولا عليك من سائر المقامات).
وقال بعض المشايخ: (اشد الهموم هموم الاقتضاء).
وتبين ما قال هذا الشيخ: أن الله تعالى خلق هذا الآدمي محتاجا إلى مدد يمسك بنيته، ويمد قوته، لما كنت الحرارة الغريزية التي هي فيه تحلل أجزاء بدنه، كان هذا الغذاء تطبخه المعدة، فتأخذ خلاصته، فيعود جزء بدنه خلفا لما حللته الحرارة الغريزية منه، ولو شاء الحق تعالى لأغنى وجود الآدمي عن المدد الحسي، وتناول الأغذية، ولكن أراد سبحانه وتعالى أن يظهر حاجة الحيوان إلى وجود التغذية، واضطراره إلى ذلك وغناه سبحانه وتعالى عما هو الحيوان محتاج إليه فلذلك قال سبحانه وتعالى: {قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم}.
فتمدح سبحانه وتعالى بوصفين:
أحدهما: انه يطعم غيره لأن كل العباد آخذ من إحسانه، وآكل من رزقه وامتنانه.
والآخرة: أنه لا يطعم لأنه المقدس عن الاحتياج إلى التغذية بل هو الصمد، والصمد هو الذي لا يطعم.
وإنما خص الحق تعالى الحيوان بالافتقار إلى التغذية دون غره من الموجودات، لأنه سبحانه وتعالى وهب الحيوان من صفاته ما لو تركه من غير فاقة لادعى أو ادعى فيه، فأراد الحق سبحانه وتعالى ـ وهو الحكيم الخبير ـ أن يحوجه إلى مأكل، ومشرب وملبس، وغير ذلك، ليكون تكرار الحاجة منه سببا لخمود الدعوى عنه أو فيه.
فائدة: اعلم أن الحق تعالى أراد أن يجعل الحاجة لهذا النوع، وهو الحيوان، من الآدمي وغيره، إما ليعرفه، أو ليعرف به، إلا ترى أن الحاجة باب إلى الله، وسبب يوصلك إليه، ألم تسمع قوله تعالى: {يا أيها الناس انتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد}.
فجعل الفقر إلى الله، سببا يؤدي إلى الوصول إليه، والدوام بين يديه.
ولعلك تفهم ها هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (من عرف نفسه عرف ربه).
أي من عرف نفسه بحاجتها وافتقارها وذلتها وفاقتها ومسكنتها عرف ربه بعزه وسلطانه، ووجوده وإحسانه إلى غير ذلك من أوصاف الكمال، لا سيما هذا النوع من الآدمي، فإن الحق سبحانه وتعالى كرر فيه أسباب الحاجة وعدد فيه أنواع الفاقة لأنه محتاج إلى صلاح معاشه ومعاده، وافهم ها هنا قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في كبد}.
أي من أمر دنياه وأخراه، فلكرامته عند الله كرر أسباب الحاجة فيه:
ألم تر أن لأصناف الحيوان غنية بأصوافها وأوبارها وأشعارها، عن لباس دثارها؟ وغنية بمرابضها وأوكارها عن أن تتخذ بيتا لقرارها.
35- حكمة اختبار الله للإنسان
فائدة أخرى: وهو أن الحق تعالى أراد أن يختبر هذا الآدمي فأحوجه لأمور شتى لينظر أيدخل في استجلابها بعقله وتدبيره، أو يرجع إلى الله في قسمته وتقديره.
فائدة أخرى: وهو انه سبحانه وتعالى أراد أن يتحبب إلى هذا العبد، فلما أورد عليه أسباب الفاقة ورفعها عنه، وجد العبد لذلك حلاوة في نفسه، وراحته في قلبه، فأوجب له ذلك تجديد الحب لربه، قال صلى الله عليه وسلم: (أحبوا الله لما يغذوكم به نعمه). فكلما تجددت النعم تجدد له من الحب بحسبها.
فائدة أخرى: وهو أنه سبحانه وتعالى، أراد أن يشكر، فلذلك أورد الفاقة على العباد، وتولى رفعها ليقوموا له بوجود شكره، وليعرفوه بإحسانه وبره، قال الله تعالى:
{كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور}.
فائدة أخرى: وذلك انه تعالى أراد أن يفتح للعباد باب المناجاة، فكلما احتاجوا إلى الأقوات والنعم، توجهوا إليه برفع الهمم، فشرفوا بمناجاته ومنحوا من هباته، ولو لم تسقهم الفاقة إلى المناجاة لم يفقهها عقول العموم من العباد. ولولا الحاجة لم يستفتح بابها إلا عقول أهل الوداد.
فصار ورود الفاقة سببا للمناجاة والمناجاة شرف عظيم، ومنصب من الكرامة جسيم.
إلا ترى أن الحق سبحانه وتعالى أخبر عن موسى عليه السلام بقوله سبحانه وتعالى:
{فسقى لهم ثم تولى إلى الظل، فقال، رب أني لما أنزلت إلي من خير فقير}.
قال علي رضي الله عنه والله ما طلب إلا خبزا يأكله، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه، لهزاله.
فانظر رحمك الله: كيف سأل من ربه ذلك لعلمه أنه لا يملك شيئا غيره، وكذلك ينبغي للمؤمن أن يكون كذلك، يسأل الله تعالى ما قل وجل حتى قال بعضهم:
{أني لأسأل الله في صلاتي حتى ملح عجيني}.
ولا يصدنك أيها المؤمن عن طلب ما تحتاج إليه من الله قلة ذلك فانه إن لم تسأله في القليل، لم تجد ربا يعطيك ذلك غيره والمطلب وان كان قليلا، فقد صار لفتح باب المناجاة جليلا، حتى قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله:
لا يكن همك في دعائك، الظفر بقضاء حاجتك فتكون محجوبا عن ربك، وليكن همك مناجاة مولاك، وفي هذه الآية فوائد:
الفائدة الأولى: وهو أن يكون المؤمن طالبا من ربه ما قل وجل، وقد ذكرناه آنفا.
الفائدة الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم نادى متعلقا باسم الربوبية لأنه المناسب في هذا المكان، لأن الرب من رباك بإحسانه، وغذاك بامتنانه، فكان في ذلك استعطاف لسيده إذ ناداه باسم الربوبية، التي ما قطع عنه موائدها، ولا حبس فوائدها.
الفائدة الثالثة: قوله: {إني لما أنزلت إلي من خير فقير، ولم يقل أني إلى الخير فقير، وفي ذلك من الفائدة: أنه لو قال: إني {إلى خيرك أو الخير فقير}، لم يتضمن أنه قد أنزل رزقه، ولم يهمك أمره.
فأتى بقوله: {أني لما أنزلت إلي من خير فقير، ليدل على أنه واثق بالله، عالم بالله لا ينساه، فكأنه يقول:
رب أني اعلم انك لا تهمل أمري، ولا أمر شيء، مما خلقت، وانك قد أنزلت رزقي، فسق لي ما أنزلت لي، كيف تشاء على ما تشاء محفوفا بإحسانك مقرونا بامتنانك، فكان في ذلك فائدتان:
فائدة الطلب، وفائدة الاعتراف بان الحق سبحانه وتعالى قد أنزل رزقه ولكنه أبهم وقته، وسببه، وواسطته، ليقع اضطرار العبد، ومع الاضطرار تكون الإجابة، لقوله تعالى:
{أمن يجيب المضطر إذا دعاه}.
ولو تعين السبب والوقت والوسائط، لم يقع للعباد الاضطرار الذي وجوده عند إبهامها، فسبحان الإله الحكيم، والقادر العليم.
الفائدة الرابعة: تدل الآية على أن الطلب من الله تعالى، لا يناقض مقام العبودية وبعد ذلك طلب من الله، فدل على أن مقام العبودية لا يناقض الطلب.
فان قلت: إن كان مقام العبودية لا يناقض الطلب، فكيف لم يطلب إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم حين رمي به في المنجنيق وتعرض له جبريل عليه السلام، فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما الله فبلى.
قال: سله، قال: حسبني من سؤالي، علمه بحالي.
فاكتفى بعلم الله تعالى به عن إظهار الطلب منه.
فالجواب: أن الأنبياء صلوات الله عليهم يعاملون في كل موطن بما يفهمون عن الحق، أنه اللائق به.
ففهم إبراهيم عليه السلام أن المراد به في ذلك الموطن، عدم إظهار الطلب والاكتفاء بالعلم، فكان بما فهمه عن ربه، وكان هذا لأن الحق سبحانه أراد أن يظهر سره، وعنايته به للملأ الأعلى الذين لما قال لهم: {إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال: أني اعلم ما لا تعلمون}.
فأراد الحق تعالى، أن يظهر سر قوله: {إني أعلم ما لا تعلمون}.
يوم زج بإبراهيم عليه السلام في المنجنيق، كأنه يقول:
يا من قال: أتجعل فيها من يفسد فيها، فكيف رأيتم خليلي؟
نظرتهم إلى ما يكون في الأرض من صنع أهل الفساد، كنمرود ومن ضاهاه من أهل الفساد، وما نظرتم إلى ما يكون فيها من أهل الصلاح والرشاد، كما كان من إبراهيم عليه السلام ومن تابعه من أهل الوداد؟
وأما موسى صلوات الله عليه، فانه علم أن مراد الحق تعالى منه في ذلك الوقت إظهار الفاقة، وإبداء المسألة فقام بما يقتضيه وقته، ولكل وجهة هو موليها.
فكل على بينة وهداية، وتوفيق من الله ورعاية.
الفائدة الخامسة: انظر إلى طلب موسى عليه السلام من ربه، وجود الرزق، ولم يواجهه بالطلب، بل اعترف بين يدي الله بوصف الفقر والفاقة، وشهد له سبحانه وتعالى بالغنى لأنه إذا عرف نفسه بالفقر والفاقة عرف به بالغنى والملاءة وهذا من بسط المناجاة وهي كثيرة:
فتارة يجلسك على بساط الفاقة فتناديه: يا غني.
وتارة على بساط الذلة فتناديه يا عزيز.
وتارة على بساط العجز فتناديه: يا قوي.
وكذلك في بقية الأسماء.
فاعترف موسى عليه السلام بالفقر والفاقة إلى الله تعالى، فكان في ذلك تعريض للطلب وان لم يطلب.
وقد يكون التعريض للتطلب بذكر أوصاف العبد من فقره إلى الله تعالى وحاجته.
وقد يكون التعريض بذكر أوصاف السيد من وجوده وأحديته كما جاء في الحديث:
(أفضل دعائي ودعاء الأنبياء من قبلي لا اله إلاّ الله، وحده لا شريك له).
فجعل الثناء على الله تعالى دعاء لأن في الثناء على السيد الغني بذكر أوصاف كماله تعريضا لفضله ونواله، كما قال الشاعر:
كريم لا يغيره صباح *** عن الخلق الكريم ولا مساء
إذا أثنى عليه المرء يوما *** كفاه من تعوضه الثناء
وقال الله تعالى حاكيا عن يونس عليه السلام:
{فنادى في الظلمات أن لا اله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}.
ثم قال سبحانه وتعالى مخبرا عن نفسه:
{فاستجبنا له ونجيناه من الغم، وكذلك ننجي المؤمنين}.
ويونس عليه السلام لم يطلب صريحا ولكن لما أثنى على ربه عز وجل واعترف بين يديه فقد أظهر الفاقة إليه فجعل الحق تعالى ذلك طلبا.
الفائدة السادسة: وكان من حقها أن تكون أولى: إن موسى عليه السلام فعل المعروف مع ابنتي شعيب عليه السلام، ولم يقصد منهما أجرا، ولا طلب منهما جزاء، بل لما سقي لهما اقبل على ربه، فطلب منه، ولم يطلب منهما، وإنما طلب من مولاه الذي مهما طلب منه أعطاه، والصوفي من يوفى من نفسه، ولا يستوفى لهاو ولنا في هذا المعنى شعر:
لا تشتغل بالعتب يوما للورى *** فيضيع وقتك والزمان قصير
وعلام تعتبهم وأنت مصدق *** إن الأمور جرى بها المقدور
هم لم يوفوا للإله بحقه *** أتريد توفيه وأنت حقير؟
فاشهد حقوقهم عليك وقم بها *** واستوف منك لهم وأنت صبور
وإذا فعلت فاشهد بعين من *** هو بالخفايا عالم وخبير
فموسى عليه السلام وفي من نفسه ولم يستوف لها، فكان له عند الله الجزاء الأكمل، وعجل له سبحانه في الدنيا زائدا على ما ادخره له في الآخرة: أن زوجه إحدى الابنتين، وجعله صهرا لنبيه عليه السلام، وآنسه به حتى جاء أوان رسالته.
فلا تجعل معاملتك إلا مع الله تعالى، أيها العبد، تكن من الرابحين، ويكرمك بما أكرم به العباد المتقين.
الفائدة السابعة: انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: {فسقى لهما تم ثم تولى إلى الظل}.
ففي ذلك دليل على انه يجوز للمؤمن أن يؤثر الظلال على الضواحي، وبارد الماء على سخنه، وأسهل الطريقين على أشقهما وأوعرهما ولا يخرجه ذلك عن مقام الزهد.
ألا ترى أن الحق سبحانه وتعالى أخبر عن موسى عليه السلام، انه تولى إلى الظل أي قصده وجاء إليه.
فان قلت قد جاء عن بعضهم: انه دخل عليه فوجد قد انبسطت الشمس على قلته التي يشرب منها، فقيل له في ذلك، فقال:
أني لما وضعتها لم يكن شمس، واني لأستحي أن امشي بحظ نفسي.
فاعلم رحمك الله: أن هذا حال عبد يتطلب الصدق من نفسه ويمنعها مناها ليشغلها بذلك عن الغفلة عن مولاها، ولو اكتمل مقامه لرفع الماء عن الشمس قاصدا بذلك قيامه بحق نفسه التي أمر الله تعالى أن يقوم بها لا استجلابا لحظه، ولكن ليقوم بحق ربه في نفسه، وقد قال سبحانه وتعالى:
{يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}.
وقال تعالى: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}.
ولذلك كان عند الفقهاء: إذا نذر المشي إلى مكة شرفها الله حافيا جاز له أن ينتعل ولا يلزمه الحفاء، لأنه ليس للشرع في متاعب العباد قصد خاص، ولم تأت الشرائع بمنع الملاذ للعباد، وكيف وهي مخلوقة من أجلهم.
قال الربيع ابن زياد الحارثي لعلي رضي الله عنه: أسعدني على أخي عاصم، قال: ما باله؟ قال: لبس العباءة يريد النسك فقال علي رضي الله عنه: علي به.
فأتى مؤتزرا بعباءة مترديا بأخرى، شعث الرأس واللحية فعبس في وجهه وقال:
ويحك: أما استحيت من اهلك؟ أما رحمت ولدك؟
أترى أن الله تعالى أباح لك الطيبات وهو يكره أن تنال منها شيئا بل أنت أهون على الله.
أما سمعت من الله يقول في كتابه:
{والأرض وضعها للأنام.. إلى قوله يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان}.
أفترى من الله أباح هذا للعباد إلا ليبتذلوه، ويحمدوا الله عليه فيثيبهم؟ وان ابتذالك نعم الله بالفعل خير منه المقال، قال عاصم: (فما بالك في خشونة مأكلك وخشونة ملبسك).
قال: ويحك أن الله فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس.
فقد تبين لك من علي رضي الله عنه، أن الحق تعالى لم يطالب العبد بعدم تنازل الملذوذات وإنما طالبهم بالشكر عليها إذ تناولوها فقال تعالى:
{كلوا من رزق ربكم واشكروا له}.
وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات واعملوا صالحا}.
ولم يقل: لا تأكلوا، وإنما قال: كلوا واعملوا.
فان قلت: الطيبات في هاتين الآيتين: المراد بها الحلال،، إذ هو الطيب باعتبار نظر الشرع.
فاعلم انه يمكن أن يكون المراد بالطيبات الحلال، لأنه طيب باعتبار انه لم يتعلق به إثم ولا مذمة ولا حجبة.
ويمكن أن يكون المراد بالطيبات، الملذوذات من المطاعم، ويكون سر إباحتها، والأمر بأكلها ليجد متناولها لذاذتها فتنشط همته للشكر فيقوم بوجود الخدمة، ويرعى حق المحرمة.
قال لي الشيخ أبو الحسن رحمه الله: قال لي شيخ: يا بني، برد الماء، فان العبد إذا شرب الماء الساخن، قال: الحمد لله بكزازة، وإذا شرب الماء البارد. فقال الحمد لله، استجاب كل عضو فيه بالحمد لله.
ثم قال: وأما الذي دخل عليه فوجد قد انبسطت الشمس على قلته، فقيل له: ألا ترفعها؟ فقال: حين وضعتها لم تكن شمس، واني لاستحي أن امشي لحظ نفسي، فانه صاحب حال لا يقتدى به.
:dddddddddd: :dddddddddd:
36- وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
انعطاف: قد مضى قولنا في سر إحواج الحيوان، وهذا الآدمي خصوصا والى وجود تغذية ممدة له، فالآن نتحدث في تكفل الحق تعالى بهذه التغذية وقيامه بإيصالها.
فاعلم أن الحق تعالى كما أحوج الحيوان إلى مدد له، وتغذية يكون بها حفظ وجوده، وكان هذان الجنسان اللذان هما الإنس والجان، خلقا ليأمرهما بعبادته، ويطالبهما بطاعته وموافقته فقال تعالى:
{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرازق ذو القوة المتين}.
فبين الله تعالى انه إنما خلق هذين الجنسين لعبادته، أي ليأمرهم بها، كما تقول لعبد: ما اشتريتك أيها العبد إلا لتخدمني أي لآمرك بالخدمة فتقوم بها.
وقد يكون العبد مخالفا متأبيا، ولم يكن شراؤك إياه لذلك: وإنما كان ليقوم بمهماتك ولقضاء حاجاتك.
وأهل الاعتزال يحملون الآية على ظاهرها فيقولون:
الحق خلفهم للطاعة، والكفر والمعصية، من قبل أنفسهم، وقد أبطلنا هذا المذهب قبل،
وفي تبيين سر الخلق والإيجاد، أعلام للعباد، وتنبيه: لماذا خلقوا؟ كي لا يجهلوا مراد الله تعالى فيهم، فيضلوا عن سبيل الهداية، ويهملوا وجود الرعاية. وقد جاء أن أربعة من الملائكة، يتجاوبون كل يوم، فيقول أحدهم: يا ليت هذا لم يخلقوا.
ويقول الآخر: ويا ليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا؟
ويقول الآخر: ويا ليتهم إذا علموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا.
ويقول الرابع: ويا ليتهم إذا لم يعملوا بما علموا أتابوا مما عملوا.
فبين الحق تعالى: انه ما خلق العباد لأنفسهم إنما خلقهم ليعبدون ويوحدوه.
فانك لا تشتري عبدا ليخدم نفسه، إنما تشتريه ليكون لك خادما.
فهذه الآية: حجة على كل عبد اشتغل بحظ نفسه عن حق ربه، وبهواه عن طاعة مولاه. ولذلك سمع إبراهيم بن ادهم ـ رحمه الله عليه، وهو كان سبب توبته لما خرج متصيدا، هاتفا يهتف به من قربوس سرجه يا إبراهيم.
ألهذا خلقت؟ أم بهذا أمرت.
ثم سمع الثانية: يا إبراهيم. ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت، فالفقيه من فهم سر الإيجاد فعمل له، وهذا هو الفقه الحقيقي الذي من أعطيه فقد أعطى المنة العظمى.
وفيه قال مالك رحمه الله: ليس الفقه بكثرة الرواية، وإنما الفقه نور يضعه الله في القلب.
وسمعت شيخنا أبا العباس رحمه الله يقول: (الفقيه من انفقأ الحجاب عن عيني قلبه).
فمن فقه عن سر الإيجاد بأنه ما أوجده إلا لطاعته، وما خلقه إلا لخدمته، كان هذا الفقه منه سببا لزهده في الدنيا، وإقباله على الأخرى، وإهماله لحظوظ نفسه، واشتغاله بحقوق سيده، مفكرا في المعاد، قائما بالاستعداد حتى قال بعضهم:
(لو قيل لي غدا تموت لم أجد مستزاد).
وقال بعضهم: وقد قالت له أمه يا بني مالك لا تأكل الخبز؟ فقال: بين مضغ الخبز وأكل الفتيت قراءة خمسين آية.
فهؤلاء قوم أذهل عقولهم عن هذه الدار، ترقب هول المطلع، وأهوال القيامة، وملاقاة جبار السموات والأرض فغيبهم ذلك عن الاستيقاظ لملاذ هذه الدار، والميل إلى مسراتها، حتى قال بعض العارفين:
دخلت على بعض المشايخ بالمغرب في داره، فقمت لأملأ ماء للوضوء، فقام الشيخ ليملأ عني فأبيت فأبى إلا أن يملأ وأمسك طرف الحبل بيده، وفي الدار عنده بجانب البئر شجرة زيتون قد خيمت على الدار، فقلت: يا سيدي لم لا تربط طرف هذا الحبل بهذه الشجرة؟ فقال:
أو ها هنا شجرة؟ إن لي في هذه الدار ستين عاما، ما اعرف أن في هذه الدار شجرة.
فافتح رحمك الله سمعك لهذه الحكاية وأمثالها تعلم أن لله عبادا اشغلهم به عن كل شيء، ولم يشغلهم عنه شيء أذهل عقوهم عظمته، وأدهش نفوسهم هيبته، فاستقر في أسرارهم وده ومحبته.
جعلنا الله منهم، ولا أخرجنا عنهم.
ومثل هذه الحكاية: كان رجل بالصعيد من الأولياء بمسجد طلب منه أحد من يخدمه أن يأخذ جريدة من أجدى نخلتين كانتا في المسجد، فأذن له فقال: يا سيدي من أيهما آخذ؟ من الصفراء أو من الحمراء؟ فقال:
يا بني: أن لي بهذا المسجد أربعين عاما، لا اعرف الصفراء من الحمراء.
ويحكى عن بعضهم انه كان يعبر عليه أولاد في داره فيقول: أولاد من هؤلاء؟ أولاد من هؤلاء؟
فيقال له: أولادك.
فكان لا يعرفهم حتى يعرف بهم، لاشتغاله بالله تعالى.
وكان بعض المشايخ يقول في أولاده إذ رآهم: هؤلاء الأيتام، وان كان أبوهم حيا.
والاسترسال عن هذه اللامعة، يخرجنا عن غرض
:888iijjjnn: :888iijjjnn:
37- ضمان الله للعباد
انعطاف: لما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} علم سبحانه وتعالى، أن لهم بشريات تطالبهم بمقتضاها تشوش عليهم صدق التوجه إلى العبودية، فضمن لهم الرزق، كي يتفرغوا لخدمته، وكي لا يشتغلوا بطلبه عن عبادته، فقال:
{ما أريد منهم من رزق}.
أي ما أريد منهم أن يرزقوا أنفسهم، فقد كفيتهم ذلك بحسن كفايتي، وبوجود ضماني.
وما أريد أن يطعمون لأني أنا القوي الصمد، الذي لا يطعم، ولذلك عقبه بقوله تعالى: {أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}.
أي: ما أريد منهم أن يرزقوا أنفسهم. لأني أنا ذو القوة، ومن له القوة في ذاته غني عن أن يطعم.
فتضمنت هذه الآية: الضمان للعبد بوجود أرزاقهم، بقوله تعالى: أن الله هو الرزاق.
وألزم المؤمنين أن يوحدوه في رزقه، وان لا يضيفوا شيئا منه إلى خلقه، وان لا يضيفوا ذلك إلى أسبابهم، وان لا يسندوه إلى اكتسابهم.
وقد قال الراوي: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثر سماء كانت من الليل، فقال: أتدرون ماذا قال ربكم؟
قلنا: لا يا رسول الله. قال:
قال ربكم: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي.
فأما من قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته، فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب.
وأما من قال: مطرنا بنوء كذا أو بنجم كذا فذاك كافر بي، مؤمن بالكوكب.
ففي هذا الحديث فائدة عظمى للمؤمنين، وبصيرة كبرى للموقنين وتعليم الأدب مع رب العالمين.
ولعل هذا الحديث يكون أيها المؤمن ناهيا له عن التعرض إلى عالم الكواكب واقتراناتها، ومانعا لك أن تدعى، وجود تأثيراتها.
واعلم أن لله تعالى فيك قضاء لا بد أن ينفذه، وحكما لا بد أن يظهره، فما فائدة التجسس على علم علام الغيوب؟
وقد نهانا سبحانه أن نتجسس على عباده فقال: ولا تجسسوا، فكيف لنا أن نتجسس على غيبه.
ولقد أحسن من قال:
خبرا عني المنجم أنني *** كافر بالذي قضته الكواكب
عالم أن يكون وما كان *** قضاء من المهيمن واجب
فائدة: اعلم أن مجيء هذه الصيغة على بقاء فعال يقتضي المبالغة فيما سيقت له، فرزاق ابلغ من رازق، لان فعال في باب المبالغة ابلغ من فاعل فيمكن أن تكون هذه المبالغة، لتعداد أعيان المرزوقين، ويمكن أن تكون لتعداد الرزق، ويحتمل أن يكون المراد هما جميعا.
فائدة أخرى ترجع إلى علم البيان: اعلم أن الدلالة على المعنى المقصود به، وجود الثناء بالصفة أبلغ من الدلالة عليه بالفعل.
فقولك زيد محسن، أبلغ من قولك زيد يحسن، أو قد أحسن، وذلك لان الصفة تدل على الثبوت والاستقرار والأفعال أصل وضعها التجدد والانقراض فلذلك كان قوله تعالى:
{إن الله هو الرزاق} أبلغ من قوله (إن الله هو يرزق).
ولو قال: إن الله هو يرزق لم يفد إلا إثبات الرزق له، ولم يفد حصر ذلك فيه، فلما قال: {إن الله هو الرزاق} أفاد ذلك انحصار الرزق فيه، فكأنه لما قال: {إن الله هو الرزاق} فقد قال: لا رازق: إلا الله.
:بب: :بب: :بب: :بب: :بب: :بب:
38- اقتران الخلق والرزق
الآية الثانية في أمر الرزق قوله تعالى:
{الله الذي خلقكم ثم يرزقكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم}.
تضمنت هذه الآية الكريمة فائدتين:
الأولى: أن الخلق والرزق مقترنان، أي كما سلمتم لله بأنه الخالق من غير دعوى منكم للخالقية معه، فكذلك سلموا له أنه الرزاق ولا تدعو ذلك معه، أي كما انفرد فيكم بالخلق والإيجاد، كذلك هو المنفرد بالرزق والإمداد، فقرنهما للاحتجاج على العباد ونهيا لهم أن يشهدوا رزقا من غيره، وإحسانه من خلقه، وانه تعالى كما خلق من حيث لا وسائط ولا أسباب، كذلك هو الرزاق من غير أن يتوقف رزقه على واسطة أو وجود سبب.
الفائدة الثانية: انه أفاد تعالى بقوله: {الله الذي خلقكم ثم رزقكم} أن الرزق قد أمضى شأنه وأبرم أمره، وليس للقضاء فيه أمر يتجدد في الأحيان، ولا يتعاقب بتعاقب الزمان، وإنما يتجدد ظهوره لا ثبوته.
والرزق يطلق على قسمين.
على ما سبق في الأزل قضاؤه، وعلى ما ظهر بعد وجود العبد إبداؤه.
والآية تحتمل الوجهين:
فان كان المراد ما سبقت به الأقدار، فثم لترتيب الأخبار، وإن كان المراد رزق الإظهار، فهي تنبيه للاعتبار.
وسر الآية التي سيقت من أجله، إثبات الإلهية لله تعالى، كأن يقول:يا من يعبد غير الله، الله الذي خلقكم، ثم رزقكم، ثم يميتكم ثم يحيكم؟ فهل تجدون هذه الأوصاف لغيره ؟ أم يمكن أن تكون لأحد من خلقه؟
فمن انفرد بها ينبغي أن يعترف بإلاهيته، ويوحد في ربوبيته،ولذلك قال بعد ذلك:
(هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء، سبحانه وتعالى عما يشركون).
:3245: :3245: :3245: :3245:
39- وجوب أمر الأهل بالصلاة
الآية الثالثة في أمر الرزق قوله تعالى:
(وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى):
وفي هذه الآية فوائد:الأولى أن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان هو المخاطب بهذه الآية، فحكمها ووعدها متعلق بأمته أيضاً.
فكل عبد مقول له: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها،لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى).
وإذ قد فهمت هذا:فاعلم أن الله أمرك أيها العبد أن تأمر أهلك بالصلاة، لأنه كما يجب عليك أن تصل أرحامهم،بأسباب الدنيا، والإيثار بها، كذلك يجب عليك أن تصلهم بأن تهديهم إلى طاعة الله تعالى، وتجنبهم وجود معصيته.
وكما كان أهلك أولى ببرك الدنيوي، كذلك هم أولى ببرك الأخروي ولأنهم رعيتك، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
(كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته).
وقال تعالى في الآية الأخرى: (وأنذر عشيرتك الأقربين).
كما قال ها هنا: (وأمر أهلك بالصلاة)
الفائدة الثانية: أنظر إلى أنه تعالى أمره عليه الصلاة والسلام، في الآية، أن يأمر أهله قبل أن يأمر هو نفسه بالاصطبار عليها، ليعلمك أن الآية سيقت للأمر بأمر الأهل بالصلاة، وأن غير هذا إنما جاء بطريق التبع، وإن كان مقصودا في نفسه، لكنه لما علم العبد أنه مأمور في نفسه بالصلاة علماًَ لا شك فيه، فأراد الحق تعالى أن ينبه العباد على ما لعلهم أن يهملوه، فأمر رسوله ليسمعوا بذلك فيتبعوا فيكونوا لذلك مسارعين على القيام به مثابرين.
تنبيه: اعلم أنه يجب عليك أن تأمر اهلك بالصلاة، من زوجة أو أمةٍ، أو ابنة، أو غير ذلك.
ولك أن تضربهم على تركها، وليس لك عند الله من حجة أن تقول: أمرت فلم يسمعوا.
فلو علموا أنه شق عليك ترك الصلاة كما يشق عليك إذا افسدوا طعاماً، أو تركوا شيئاً من أمر مهماتك ما تركوا، بل اعتادوا منك أن تطالبهم بحظوظ نفسك، ولا تطالبهم بحقوق الله، فلأجل ذلك أهملوها.
ومن كان محافظاً على الصلاة وعنده أهل لا يصلون، وهو غير آمر لهم بها، حشر يوم القيامة في زمرة المضيعين للصلاة.
فإن قلت: إني أمرتهم فلم يفعلوا، ونصحتهم فلم يقبلوا وعاقبتهم على ذلك بالضرب فلم يكونوا له فاعلين، فكيف أصنع ؟.
فالجواب: أنه ينبغي لك مفارقة من يمكن مفارقته، ببيع أو طلاق، والإعراض عمن لا يمكن بينونته عنك بذلك، وأن تهجرهم في الله، فإن الهجر في الله يوجب الصلة به.