أبوجهاد عضو ذهبى
العمر : 47 الدولة : مصر الحبيبة عدد المساهمات : 1133 نقاط : 2247 تاريخ الميلاد : 20/01/1963 تاريخ التسجيل : 24/01/2010 العمر : 61 العمل/الترفيه : طالب علم تعاليق : رب اغفر لي ولوالدي والمؤمنين
| موضوع: على ضوء الإجابة عن موانع الإستجابة الخميس مايو 27, 2010 11:27 am | |
| بسم الله الرحمن الرحيم على ضوء الإجابة عن موانع الإستجابة
الحمد لله القريب المجيب ، الذي قال في محكم الكتاب : (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) (النمل : 62 )، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحب من عباده الداعي الملحاح ، والصلاة والسلام على محمد النبي الأمين خير الداعين ، الهادي إلى سبيل الفلاح ، وعلى آله الطاهرين وصحابته الميامين ،أهل التقى والكفاح ، وعلى كل عبد قال : آمنت بالله ثم استقام ، إلى اليوم الذي يسعد فيه أهل التوحيد الخالص والصلاح ، ويشقى فيه كل منافق ومجاهر بكفر بواح...
أما بعد ، فهذا شرح يسير لكلمة الأمير الزاهد إبراهيم بن أدهم ( 261 هـ ) رحمه الله ... التي بين فيها جملة من موانع الإستجابة ؛ ومن خلال هذا الشرح المتواضع ، حاولت أن أقف على أحوال المسلمين في الوقت الراهن وما يتعرضون له في مشارق الأرض ومغاربها من فتن تجد تربتها الخصبة ومنبتَها الحسن وريَّها المتدفق في أرضهم حيث يزرعون بذرتها بأيديهم ، وما يهاجمهم في عقر ديارهم من موبقات مهلكات مرديات تذروها ريح عدو تزداد عداوته شدة ويوازره في طغيانه غرب ظلوم ، لا همَّ لهما إلا الكيد للإسلم ومعتنقيه ...
أقول وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب :
* وقد ذكر الإمامُ القرطبي رحمه الله هذه الكلمةَ في تفسيره ، بالفاظ مغايرة شيئا ما ، لكن تدور حول نفس المعاني...، وستأتي إن شاء الله ...
*** قلت ( مع تصرف قليل ) : قال ابن كثير رحمه الله عند شرحه لقول الباري جل ثناؤه : ( وَقَالَ رَبّكُـمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ ).. (غافر : 60 ) :
هذا من فضله تبارك وتعالى وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه وتكفل لهم بالإجابة كما كان سفيان الثوري يقول: يا مَن أحبُّ عبادِه إليه مَن سأله فأكثر سؤالَه, ويا مَن أبغضُ عبادِه إليه مَن لم يسأله ؛ وليس أحدٌ كذلك غيرك يا رب.... رواه ابن أبي حاتم وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
اللهُ يغضَبُ إن تركتَ سؤالَهُ وبُنَيُّ آدمَ حين يُسألُ يغضَبُ
وقال قتادة: قال كعب الأحبار أعطيت هذه الأمة ثلاثاً لم تعطهن أمة قبلها ولا نبي: كان إذا أرسل الله نبياً قال له أنت شاهد على أمتك وجعلتكم شهداء على الناس, وكان يقال له ليس عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وكان يقال له ادعني أستجب لك وقال لهذه الأمة {ادعوني أستجب لكم} رواه ابن أبي حاتم. وقال الإمام الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو إبراهيم الترجماني حدثنا صالح المرّي قال: سمعت الحسن يحدث عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال: «أربع خصال واحدة منهن لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة فيما بينك وبين عبادي, فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئاً وأما التي لك علي فما عملت من خير جزيتك به وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلي الإجابة وأما التي بينك وبين عبادي فارض لهم ما ترضى لنفسك». وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن ذر عن يسيع الكندي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدعاء هو العبادة» ثم قرأ {ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} وهكذا رواه أصحاب السنن الترمذي والنسائي وابن ماجه ... وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع أبو مليح المدني شيخ من أهل المدينة سمعه عن أبي صالح وقال مرة سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع الله عز وجل غضب عليه» تفرد به أحمد ، وهذا إسناد لا بأس به ... وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا مروان الفزاري حدثنا صبيح أبو المليح سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لا يسأله يغضب عليه» ... وفي مسنده البزار : أبو المليح الفارسي عن أبي صالح الخوزي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يسأل الله يغضب عليه»... وقال أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي: حدثنا همام حدثنا إبراهيم عن الحسن حدثنا نائل بن نجيح حدثني عائذ بن حبيب عن محمد بن سعيد قال: لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري وجدنا في ذؤابة سيفه كتاباً باسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لربكم في بقية أيام دهركم نفحات فتعرضوا له لعل دعوة أن توافق رحمة فيسعد بها صاحبها سعادة لا يخسر بعدها أبداً»....
وقوله عز وجل: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي} أي عن دعائي وتوحيدي سيدخلون جهنم داخرين أي صاغرين حقيرين كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن عجلان حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصَّغار حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو بكر بن محمد بن يزيد بن خنيس قال: سمعت أبي يحدث عن وهيب بن الورد حدثني رجل قال: كنت أسير ذات يوم في أرض الروم فسمعت هاتفاً من فوق رأس الجبل وهو يقول: يا رب عجبت لمن عرفك كيف يرجو أحداً غيرك... يا رب عجبت لمن عرفك كيف يطلب حوائجه إلى أحد غيرك.... قال ثم ذهبت، ثم جاءت الطامة الكبرى ؛ قال ثم عاد الثانية، فقال: يا رب عجبت لمن عرفك كيف يتعرض لشيء من سخطك يرضي غيرك ...قال وهيب وهذه الطامة الكبرى, قال فناديته أجني أنت أم إنسي ؟ قال بل إنسي اشغلْ نفسَك بما يعنيك عما لا يعنيك .
*** وقال القرطبي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى :(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة : 186 )
قوله تعالى: "وإذا سألك" المعنى وإذا سألوك عن المعبود فأخبرهم أنه قريب يثيب على الطاعة ويجيب الداعي، ويعلم ما يفعله العبد من صوم وصلاة وغير ذلك. واختلف في سبب نزولها، فقال مقاتل: إن عمر رضي اللّه عنه واقع امرأته بعد ما صلى العشاء فندم على ذلك وبكى، وجاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبره بذلك ورجع مغتما، وكان ذلك قبل نزول الرخصة، فنزلت هذه الآية: "إذا سألك عبادي عني فإني قريب". وقيل: لما وجب عليهم في الابتداء ترك الأكل بعد النوم فأكل بعضهم ثم ندم، فنزلت هذه الآية في قبول التوبة ونسخ ذلك الحكم، على ما يأتي بيانه. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قالت اليهود كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام، وغلظ كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت هذه الآية. وقال الحسن: سببها أن قوما قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت. وقال عطاء وقتادة: لما نزلت: "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم" [غافر: 60] قال قوم: في أي ساعة ندعوه؟ فنزلت.
قوله تعالى: "فإني قريب" أي بالإجابة. وقيل بالعلم. وقيل: قريب من أوليائي بالإفضال والإنعام.
قوله تعالى: "أجيب دعوة الداعي إذا دعان" أي أقبل عبادة من عبدني، فالدعاء بمعنى العبادة، والإجابة بمعنى القبول. دليله ما رواه أبو داود عن النعمان بن بشير عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة ، قال ربكم: (ادعوني أستجب لكم ) ... فسمي الدعاء عبادة، ومنه قوله تعالى: "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" [غافر: 60] أي دعائي. فأمر تعالى بالدعاء وحض عليه وسماه عبادة، ووعد بأن يستجيب لهم. روى ليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : (أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء: كان اللّه إذا بعث نبيا قال ادعني أستجب لك ، وقال لهذه الأمة ادعوني أستجب لكم... وكان اللّه إذا بعث النبي قال له ما جعل عليك في الدين من حرج ، وقال لهذه الأمة ما جعل عليكم في الدين من حرج... وكان اللّه إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه ، وجعل هذه الأمة شهداء على الناس... ). وكان خالد الربعي يقول: عجبت لهذه الأمة في "ادعوني أستجب لكم" [غافر: 60] أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة، وليس بينهما شرط. قال له قائل: مثل ماذا؟ قال مثل قوله: "وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات" [البقرة: 25] فههنا شرط، وقوله: "وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق" [يونس: 2] فليس فيه شرط العمل، ومثل قوله: "فادعوا الله مخلصين له الدين" [غافر: 14] فههنا شرط، وقوله: "ادعوني أستجب لكم" ليس فيه شرط. وكانت الأمم تفزع إلى أنبيائها في حوائجهم حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك.
فإن قيل: فما للداعي قد يدعو فلا يجاب ؟ فالجواب أن يعلم أن قوله الحق في الآيتين "أجيب" "أستجب" لا يقتضي الاستجابة مطلقا لكل داع على التفصيل، ولا بكل مطلوب على التفصيل، فقد قال ربنا تبارك وتعالى في آية أخرى: "ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين" [الأعراف: 55] وكل مصر على كبيرة عالما بها أو جاهلا فهو معتد، وقد أخبر أنه لا يحب المعتدين فكيف يستجيب له. وأنواع الاعتداء كثيرة، ..... وقال بعض العلماء: أجيب إن شئت، كما قال: "فيكشف ما تدعون إليه إن شاء" [الأنعام: 41] فيكون هذا من باب المطلق والمقيد. وقد دعا النبي صلى اللّه عليه وسلم في ثلاث فأعطي اثنتين ومنع واحدة .قلت : يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد ومسلم من رواية سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها .... وقيل: إنما مقصود هذا الإخبار تعريف جميع المؤمنين أن هذا وصف ربهم سبحانه أن يجيب دعاء الداعين في الجملة، وأنه قريب من العبد يسمع دعاءه ويعلم اضطراره فيجيبه بما شاء وكيف شاء (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) [الأحقاف: 5] وقد يجيب السيد عبده والوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله. فالإجابة كانت حاصلة لا محالة عند وجود الدعوة ، لأن (أجيب) و ( أستجب ) خبر لا ينسخ فيصير المخبر كذابا. يدل على هذا التأويل ما روى ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (من فتح له في الدعاء فتحت له أبواب الإجابة). وأوحى اللّه تعالى إلى داود: أن قل للظلمة من عبادي لا يدعوني فإني أوجبت على نفسي أن أجيب من دعاني وإني إذا أجبت الظلمة لعنتهم. وقال قوم: إن اللّه يجيب كل الدعاء، فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا، وإما أن يكفر عنه، وإما أن يدخر له في الآخرة، لما رواه أبو سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه اللّه بها إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخر له ، وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها). قالوا: إذن نكثر؟ قال: (لله أكثر). أخرجه أبو عمر بن عبد البر، وصححه أبو محمد عبد الحق، وهو في الموطأ منقطع السند. قال أبو عمر: وهذا الحديث يخرج في التفسير المسند لقول اللّه تعالى "ادعوني أستجب لكم" [غافر: 60] فهذا كله من الإجابة. وقال ابن عباس: كل عبد دعا استجيب له، فإن كان الذي يدعو به رزقا له في الدنيا أعطيه، وإن لم يكن رزقا له في الدنيا ذخر له....قلت: وحديث أبي سعيد الخدري وإن كان إذنا بالإجابة في إحدى ثلاث فقد دلَّك على صحة ما تقدم من اجتناب الاعتداء المانع من الإجابة حيث قال فيه: (ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ) وزاد مسلم: (ما لم يستعجل). رواه عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل - قيل: يا رسول اللّه، ما الاستعجال؟ قال - يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ). وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عيه وسلم قال: ( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي). قال علماؤنا رحمة اللّه عليهم : يحتمل قوله (يستجاب لأحدكم ) الإخبار عن وجوب وقوع الإجابة، والإخبار عن جواز وقوعها، فإذا كان بمعنى الإخبار عن الوجوب والوقوع فإن الإجابة تكون بمعنى الثلاثة الأشياء المتقدمة. فإذا قال: قد دعوت فلم يستجب لي، بطل وقوع أحد هذه الثلاثة الأشياء وعري الدعاء من جميعها. وإن كان بمعنى جواز الإجابة فإن الإجابة حينئذ تكون بفعل ما دعا به خاصة، ويمنع من ذلك قول الداعي: قد دعوت فلم يستجب لي، لأن ذلك من باب القنوط وضعف اليقين والسخط ....
قلت: ويمنع من إجابة الدعاء أيضا أكل الحرام وما كان في معناه، قال صلى اللّه عليه وسلم: ( الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء : يا رب... يا رب... ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام... فأنَّى يستجاب لذلك ؟ ).. وهذا استفهام على جهة الاستبعاد من قبول دعاء من هذه صفته، فإن إجابة الدعاء لا بد لها من شروط في الداعي وفي الدعاء وفي الشيء المدعو به. فمن شرط الداعي أن يكون عالما بأن لا قادر على حاجته إلا اللّه، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب، فإن اللّه لا يستجيب دعاءً من قلبٍ غافل لاهٍ ، وأن يكون مجتنبا لأكل الحرام، وألا يمل من الدعاء. ومن شرط المدعو فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا، كما قال: ( ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ) فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب، ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم . وقال سهل بن عبدالله التستري: شروط الدعاء سبعة : التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال. وقال ابن عطاء: إن للدعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح. فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع، وأجنحته الصدق، ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: شرائطه أربع: حفظ القلب عند الوحدة، وحفظ اللسان مع الخلق، وحفظ العين عن النظر إلى ما لا يحل، وحفظ البطن من الحرام. وقد قيل: إن من شرط الدعاء أن يكون سليما من اللحن، كما أنشد بعضهم:
ينادي ربه باللحن ليث كذاك إذا دعاه لا يجيب .
قال علي رضي اللّه عنه لنوف البكالي: يا نوف، إن اللّه أوحى إلى داود أن مر بني إسرائيل ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب طاهرة، وأبصار خاشعة، وأيد نقية، فإني لا أستجيب لأحد منهم ما دام لأحد من خلقي مظلمة .... يا نوف، لا تكونن شاعرا ولا عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا عشارا، فإن داود قام في ساعة من الليل فقال: إنها ساعة لا يدعو عبد إلا استجيب له فيها، إلا أن يكون عريفا أو شرطيا أو جابيا أو عشارا، أو صاحب عرطبة، وهي الطنبور، أو صاحب كوبة، وهي الطبل. قال علماؤنا: ولا يقل الداعي: اللهم أعطني إن شئت، اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، بل يعري سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة، ويسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا أن يشاء. وأيضا فإن في قوله: "إن شئت" نوع من الاستغناء عن مغفرته وعطائه ورحمته، كقول القائل: إن شئت أن تعطيني كذا فافعل، لا يستعمل هذا إلا مع الغني عنه، وأما المضطر إليه فإنه يعزم في مسألته ويسأل سؤال فقير مضطر إلى ما سأله. روى الأئمة واللفظ للبخاري عن أنس بن مالك قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له ). وفي الموطأ: (اللهم اغفر لي أن شئت، اللهم ارحمني إن شئت ). قال علماؤنا: قوله (فليعزم المسألة) دليل على أنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء من الإجابة، ولا يقنط من رحمة اللّه، لأنه يدعو كريما. قال سفيان بن عيينة: لا يمنعن أحدا من الدعاء ما يعلمه من نفسه فإن اللّه قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس، قال: رب فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين. وللدعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة، وذلك كالسَّحَر ووقت الفِطر، وما بين الأذان والإقامة، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء، وأوقات الاضطرار وحالة السفر والمرض، وعند نزول المطر والصف في سبيل اللّه. كل هذا جاءت به الآثار، .... وروى شهر بن حوشب أن أم الدرداء قالت له: يا شهر، ألا تجد القشعريرة ؟ قلت نعم . قالت: فادع اللّه فإن الدعاء مستجاب عند ذلك . وقال جابر بن عبدالله: دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مسجد الفتح ثلاثا يوم الاثنين ويوم الثلاثاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرفت السرور في وجهه. قال جابر: ما نزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة.
قوله تعالى: "فليستجيبوا لي" قال أبو رجاء الخراساني: فليدعوا لي. وقال ابن عطية: المعنى فليطلبوا أن أجيبهم. وهذا هو باب استفعل أي طلب الشيء إلا ما شذ مثل استغنى اللّه. وقال مجاهد وغيره: المعنى فليجيبوا إليّ فيما دعوتهم إليه من الإيمان، أي الطاعة والعمل ويقال: أجاب واستجاب بمعنى، ومنه قول الشاعر:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي لم يجبه والسين زائدة واللام لام الأمر. وكذا في قوله : "وليؤمنوا" ، وجزمت لام الأمر لأنها تجعل الفعل مستقبلا لا غير فأشبهت إن التي للشرط. وقيل: لأنها لا تقع إلا على الفعل.
قوله تعالى: "وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون"... الرشاد خلاف الغي. وقد رشد يرشد رشدا. ورشد بالكسر يرشد رشدا، لغة فيه. وأرشده اللّه. والمراشد: مقاصد الطرق. والطريق الأرشد: نحو الأقصد ... وقال الهروي: الرُّشد والرَّشد والرشاد: الهدى والاستقامة، ومنه قوله: "لعلهم يرشدون".
**** ونعود إلى كلمة إبراهيم بن أدهم رحمه الله لنتناولها بشيء من الشرح والنظر على ضوء ذلك في الأحوال الراهنة لأميماتنا الممزقة ؛ نسأل الله أن يحمع شتاتها حتى تستعيد مكانتها كخير أمة أخرجت للناس ، والله ولي الهداية والسداد ، وما التوفيق إلا به سبحانه ،...
قول إبراهيم بن أدهم رحمه الله :
1- عرفتم الله ، ولم تؤدوا حقه .
قلت : قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير قوله تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات : 56 )، قال :... وقال ابن جريج: إلا ليعرفون ..
وذكر القرطبي رحمه الله عن مجاهد قوله في معنى قوله تعالى : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، قال : إلا ليعرفوني . وقال الثعلبي: وهذا قول حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لما عُرف وجودُه وتوحيدُه. ودليل هذا التأويل قوله تعالى: "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله" [الزخرف: 87] وقوله : "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم" [الزخرف: 9] وما أشبه هذا من الآيات....اهــ. ولكي يعرفَه خلقُه من الجن والإنس فيعبدوه وحده لا شريك له ، بعث سبحانه الأنبياء وخصهم برفيع الكرامات وأرسل الرسل وأيدهم بباهر المعجزات وأنزل الكتب آيات مبيَّنات مفصَّلات ... وهذا القرآن العظيم بين أيدينا نتلوه آناء الليل وأطراف النهار فنجد أن الله عز وجل تكلم فيه عن أسمائه الحسنى ، وصفات جلاله ، و نعوت جماله ، وكمال أفعاله ، لا إله إلا هو ،الواحد الأحد، الفرد الصمد، الملك الحق المبين ، خالق كل شيء ، الرزاق ذو القوة المتين ، رب العالمين ...
عرفناه سبحانه كما شاء أن نعرفه ...فما هو حقه علينا ؟ وهل أدينا هذا الحق حتى نتسنى إجابة الدعاء ؟
**روى البخاري رحمه الله ، قال : حدثنا هدبة بن خالد: حدثنا همَّام: حدثنا قتادة: حدثنا أنس بن مالك، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل، فقال: (يا معاذ). قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال: (يا معاذ). قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال: (يا معاذ). قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: (هل تدري ما حق الله على عباده). قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً). ثم سار ساعة، ثم قال: (يا معاذ بن جبل). قلت: لبيك رسول الله وسعديك، فقال: (هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه). قلت: الله ورسوله أعلم ، قال: (حق العباد على الله أن لا يعذبهم ).- متفق عليه -
** ومن ألفاظ مسلم ... عن معاذ بن جبل؛ قال: كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم. على حمار يقال له عفير. قال: فقال: "يا معاذ .. تدري ما حق الله على العباد وما حق الله على العباد ؟" قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا. وحق العباد على الله عز وجل أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا" قال قلت: يا رسول الله .. أفلا أبشر الناس؟ قال: " لا تبشرْهم. فيتَّكلوا ".
- قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله :
قوله : " هل تدري ما حق الله على عباده " الحق كل موجود متحقق أو ما سيوجد لا محالة ، ويقال للكلام الصدق حق لأن وقوعه متحقق لا تردد عليه ، وكذا الحق المستحق على الغير إذا كان لا تردد فيه ، والمراد هنا ما يستحقه الله على عباده مما جعله محتماً عليهم ، قال ابن التيمي في التحرير ، وقال القرطبي : حق الله على العباد هو ما وعدهم به من الثواب وألزمهم إياه بخطابه .
قوله : " أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ً" المراد بالعبادة عمل الطاعات واجتناب المعاصي وعطف عليها عدم الشرك لأنه تمام التوحيد ، والحكمة في عطفه على العبادة أن بعض الكفرة كانوا يدَّعون أنهم يعبدون الله ولكنهم كانوا يعبدون آلهة أخرى فاشترط نفي ذلك ، وتقدم أن الجملة حالية والتقدير يعبدونه في حال عدم الاشتراك به وقال ابن حبان : عبادة الله إقرار باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالجوارح ..، ولهذا قال في الجواب "فما حق العباد إذا فعلوا ذلك" فعبر بالفعل ولم يعبر بالقول .
قوله : "هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه" ؟ الضمير لما تقدم من قوله "يعبدوه ولا يشكروا به شيئاً" في رواية مسلم "إذا فعلوا ذلك" .
قوله : "حق العباد على الله أن لا يعذبهم" في رواية ابن حبان من طريق عمرو بن ميمون "أن يغفر لهم ولا يعذبهم" وفي رواية أبي عثمان "يدخلهم الجنة" وفي رواية أبي العوام مثله وزاد "ويغفر لهم" وفي رواية عبد الرحمن بن غنم "أن يدخلهم الجنة" قال القرطبي : حق العباد على الله ما وعدهم به من الثواب والجزاء ، فحق ذلك ووجب بحكم وعده الصدق ، وقوله الحق الذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر ولا الخلف في الوعد ، فالله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بحكم الأمر إذ لا آمر فوقه ولا حكم للعقل لأنه كاشف لا موجب انتهى . وتمسك بعض المعتزلة بظاهره . ولا متمسك لهم فيه مع قيام الاحتمال . وقد تقدم في العلم عدة أجوبة غير هذه ، ومنها أن المراد بالحق هنا المتحقق الثابت أو الجدير ، لأن إحسان الرب لمن لم يتخذ رباً سواه جدير في الحكمة أن لا يعذبه ، أو المراد أنه كالواجب في تحققه وتأكده ، أو ذكر على سبيل المقابلة . قال : وفي الحديث جواز ركوب اثنين على حمار ، وفيه تواضع النبي صل الله عليه وسلم ، وفضل معاذ وحسن أدبه في القول وفي العلم برده لما لم يحط بحقيقته إلى علم الله ورسوله ، وقرب منزلته من النبي صلى الله عليه وسلم . وفيه تكرار الكلام لتأكيد وتفهيمه . واستفسار الشيخ تلميذ عن الحكم ليختبر ما عنده ويبين له ما يشكل عليه منه وقال ابن رجب في شرحه لأوائل البخاري : قال العلماء يؤخذ من منع معاذ من تبشير الناس لئلا يتكلوا أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها ، وقد سمعها معاذ فلم يزدد إلا اجتهاداً في العمل وخشية لله عز وجل ، فأما من لم يبلغ منزلته فلا يؤمَن أن يقصر اتكالاً على ظاهر هذا الخبر ، وقد عارضه ما تواتر من نصوص الكتاب والسنة أن بعض عصاة الموحدين يدخلوه النار ، فعلى هذا فيجب الجمع بين الأمرين ، وقد سلكوا في ذلك مسالك : أحدهما قول الزهري إن هذه الرخصة كانت قبل نزول الفرائض والحدود ، وسيأتي ذلك عنه في حديث عثمان في الوضوء ، واستبعده غيره من أن النسخ لا يدخل الخبر ، وبأن سماع معاذ لهذه كان متأخراً عن أكثر نزول الفرائض . وقيل لا نسخ بل هو على عمومه ، ولكنه مقيد بشرائط كما ترتب الأحكام على أسبابها المقتضية المتوقِّـفة على انتفاء الموانع ، فإذا تكامل ذلك عمل المقتضى عملَه ، وإلى ذلك أشار وهب بن منبه بقوله المتقدم في كتاب الجنائز في شرح " لا إله إلا الله مفتاح الجنة " : ليس من مفتاح إلا وله أسنان .. ، وقيل المراد دخول نار الشرك ، وقيل ترك تعذيب جميع بدن الموحدين لأن النار لا تحرق مواضع السجود ، وقيل ليس ذلك لكل من وحد وعبد بل يختص بمن أخلص ، والإخلاص يقتضي تحقيق القلب بمعناها ، ولا يتصور حصول التحقيق مع الإصرار على المعصية لامتلاء القلب بمحبة الله تعالى وخشيته فتنبعث الجوارح إلى الطاعة وتنكف عن المعصية . انتهى ملخصاً . وفي آخر حديث أنس عن معاذ في نحو هذا الحديث "فقلت ألا أخبر الناس ؟ قال : لا لئلا يتكلوا" فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً ...
قلت: إذا نظرنا إلى" المسلمين " وما هُم عليه اليوم في معظم بلدانهم ؛ وطرحنا هذا السؤال : هل يعبدون الله وحده ولا يشركون به شيئاً ؟ كان الجواب فورا ودون أدنى تردد : لا ... مزارات وأضرحة وقباب غطت أرجاء البلاد، جعلوا للمقبورين تحتها مواسم وأعياد للوفاء لهم بالنذور والطواف برفاثهم ودعائهم والشكوى لهم وطلب كشف الغم وإزالة الهم ...، أحياء يستغيثون بالأموات ، أبعد هذا الحمق حمق ؟ ألم يبلغ هؤلاء القبوريين قول الحي الذي لا يموت سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (الأعراف : 194 ) ؟ ألم يسمعوا قوله : (إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر : 14 ) ؟ ألم يقرأ عليهم أحد قول الحي القيوم: ( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) ( النحل 20-21 ) ؟أم تُراهم من الصم البكم العمي الذين لا يعقلون ولا هم يرجعون ؟....
آبار وأشجار وأحجار اتخذوها ذوات أنواط ، يقربون إليها القرابين الثمينة التي يزداد بها ثراءًََ سدنتُها الأغنياء الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة واستطابوا أكلَ أموال الأغبياء بالباطل...أنجبَت نائلة وفرَّخ هُبل فانتشرت ذريتُهما في الأرض ترعاها عينُ إبليس المريد الرجيم وتحفها بالعناية أيدي جنده اللعين اللئيم الذي غيَّب عقول هؤلاء المغبونين ، بل غسل أدمغتهم ثم برمجها وفق أغراضه ومراميه ، وإلا متى كانت العظام النخرة تُعين على نوائب الدهر مَن لا يزال يدب على وجه الأرض؟ ... أبعد هذه السفاهة سفاهة ؟...
كهوف ومغارات مظلمة يُطلِق عليها المستفيدون منها ماديا أسماء سموْها وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان ، تكنات وزوايا وقلاع يباح فيها اختلاط الرجال بالنساء يأتونها من كل فج عميق ليشربوا الدم المسفوح الذي يسفكونه لما يُعرف عندهم بالأسياد من الجن والشيوخ من الإنس تزلّفا إليهم ، يرضونهم ويأملون منهم قضاء حوائجهم من جلب نفعٍ ودفع ضر ...سهرات راقصة تتخلها مشاهد حمقاء من وقوف بأقدام حافية على جمر ملتهب يتطاير شرارُه وتجرع ماء يغلي حميمُه، وعلى نغمات المزامير ودقات الطبول لعب بالحيات والأفاعي ، والويل لثعبان يتمرد أو يدافع عن نفسه ، يكون مصيره الشي حيا وأكل لحمه في شراسة يدكيها الغضب... يقولون : " هذا ما ترك لنا جدنا، وكان وليا كثير الكرامات " ...
قلت لأحدهم مرة : بئس الوارث وبئس الموروت وبئس الإرث ... فنهرني قائلا : أما تخشى أن تصاب بالأذى ، أنت الذي تطعَن في طريقتنا وتريد أن تصدنا عن اتباع شيخنا وما وجدنا عليه آباءنا ؟ فقرأت ، جهراً حتى أُسمعه كلام الله : ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنعام : 81 ) ... فابتعد وكأنه شيطان قرع سمعَه صوتُ المؤذن ، ثم التفت ، فقرأت قوله تعالى : ( أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) (الزمر : 38 ) ... فغاب عن ناظري...
أين التوحيد الذي جاءت به الرسل ؟ إنها رجعة مشؤومة إلى عبادة الأوثان بمسمَِيات شتى ...لقد أنجب الطاغوت طواغيت كثيرة تأبى العد وترفض الحصر ، تنتشر في الآرض انتشار نار تؤججها ريح سموم في هشيم كثيف يابس. تسمع أحدَ عبَّادهم يقول مع القائلين : لا إله إلا الله ، ولا تجده يحقق شيئا من شروطها ؛ لا يقين ولا قبول ولا انقياد ولا علم ولا إخلاص ولا صدق ولا محبة ... قلوب ران عليها الشك ، وأعماها الرفض ، وطمسها العصيان ، وأظلمها الجهل ، ولوثها الشرك ، وأصمها الكذب ، وأقفلها الكره ... أنى يستجاب لأهلها دعاءٌ؟
أيها الغافل أفق..واعبد ربك وحده، واذكره وحده، وادعه وحده ،وسله وحده ، وتدبر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله ابن عمه العباس رضي الله عنهما :" يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك.. احفظ الله تجده تجاهك.. إذا سألت فاسأل الله.. وإذا استعنت فاستعن بالله ..واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك .. ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك .. جفت الأقلام ورفعت الصحف ." – رواح أحمد والترمذي ...-
وقبل أن أنتقل إلى النقطة الثانية ، أذكر هؤلاء الغافلين بقول الواحد الأحد :(إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (المائدة : 72 ) ...
2- قرأتم كتاب الله ، ولم تعملوا به .
قال تعالى :(وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (الفرقان : 30 )
قال ابن كثير رحمه الله : يقول تعالى مخبراً عن رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال « يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً» وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه, كما قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (فصلت : 26 ), فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه. فهذا من هجرانه ،وترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه, وترك تدبره وتفهمه من هجرانه, وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه, والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه, فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء, أن يخلصنا مما يسخطه, ويستعملنا فيما يرضيه من حفظ كتابه وفهمه, والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يحبه ويرضاه, إنه كريم وهاب.
قلت :يرحم اللهُ عبدَه ابنَ كثير، جمع في هذه السطور كل أصناف هجران القرآن ، وكلمةُ ابنِ أدهم -رحمه الله - قرأتم كتاب الله ، ولم تعملوا به - تلتقي مع ما قال ابنُ كثير : وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه ...نعم، يُقرأ القرآن اليوم بشتى وسائل العصر ، لكن عُطِّلت أحكامُه وقنَّن المقننون وشرَع المشرِّعون وفرضوا بناتِ أفكارهم العرجاء على شعوب عملوا على تجهيلها وإبعادها عن حكم أحكم الحاكمين بدعوى أنها أصبحت لا تتلاءم ومقتضيات العالم الجديد ، فالسارق لا تقطع يده ويكفي سجنه بضعة أيام يجوز له أن يدفع بدلها فديةً لصندوق الدولة أو لجيب القاضي الذي اشترى منصبَه فهو يستثمره ، والزاني لا يطرد ولا يرجم ، بل ولا يقبض عليه إن مارس فاحشته في بيوت الرايات الحمر المرخص لها ، وإلا فحبس يسير ينفك منه بقليل من رشوة ، والسكير لا يُجلد ، وإذا خرج من حان مأذون له ببيع الخمور المحلية والمستوردة توصله سيارةُ الأمن إلى بيته مقابل أجرة حتى لا يُحدث أي فوضى في المجتمع ، ...
والعمل بالقرآن في جميع الجوانب الحياتية واجب ... لكن ، لا أرى جانبا واحدا منها سلم من التبديل والتغيير... فانظر - عفاني الله وإياك - إلى ما يسمونه " الأحوال الشخصية " ..ألا تراهم يحاولون تخريب نواة البيت المسلم السليم بتقنيناتهم المدمرة ؟ سماح بزواج المتعة هنا وهناك ، منع لتعدد الزوجات وإن دعت إليه الضرورة وكان وفق الكتاب والسنة ، رمي الأطفال في " دور الحضانة " ، قسمة التركات بالتساوي بين الذكران والإناث ، اتجار بالمرأة تحت شعار أعور يلوِّح به المرجفون في أعلام كتبوا عليها بمداد العار " تحرير المرأة " .. أنت يا من يزعم هذا ، هل ولدتك أمُّك وهي في الأصفاد ؟ هل زفت أختك إلى زوجها في الأغلال ؟ هل احتفلت بنتك بعيد ميلادها في السلاسل ؟ هل تدخل عمتك مطبخها في قيود من حديد؟ هل تأوي خالتك إلى فراشها مكبلة الرجلين واليدين؟ إن كان كذلك فلا بأس ، حرر ما استطعت هؤلاء النسوة وأرحهن من أثقالهن ....
وانظر أيها القاريء الكريم - غفر الله لي ولك - إلى الأسواق وما يجري فيها من طامات .. لا البائع سمح ، ولا الشاري سمح .. غش في السلع والبضائع والخدمات ، وكل يحاول الربح مستغلا غفلة صاحبه ، دُفنت النصيحة في واد سحيق وليس قرب لحدها سوى قبر أخيها الصدق ورمس أختها الأمانة ... لم تنج معاملة من الربَويات الممحقات ، كما لم يُعف حتى الخبز من " الضريبة على القيمة المضافة "...
وانظر - رحمني الله وإياك - إلى العبادات ... ألا ترى أنها أصبحت خاضعة للتقطيعات الجغرافية للأميمات المتشرذمة حيث لا تقام الشعائر إلا وفق مذهب مفروض لا يحقُّ لأحدٍ الحيادُ عنه قيدَ بعوضة ، وانظر إلى المنابر وما آل إليه حال الخطباء ... تُعِدُّ لهم الوزارة المكلفة بالشؤون الإسلامية خطبةَ الجمعة وتُلزمهم بقراءتها في عجالة خاطفة تليها ركيعتان تسابقان عقربي الساعة ورنات الهاتف الجوال ، يقول المصلون : أسرع يا إمام ، إن مواعد العمل لا ترحم ،...رحماك يا رحيم ، رحماك يا رحمن ، رحماك يا أرحم الراحمين ...
فأين العمل بالقرآن الذي نقرأ فيه قول الباري : (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (القيامة : 18 ) ؟وقوله عز وجل : (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأنعام : 155 )... ألم يسمع المعرضون قوله جل ثناؤه :(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ) (السجدة :22) ؟ ألم يبلغهم قوله: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه : 124 ) ؟ بلى.. بلى...
بلغهم وسمعوه ، لكن غرتهم الحياةُ الدنيا وزخرفها وأوقعهم الغرورُ لعنه الله في شِباكه .
اللهم خلصنا مما يسخطك ، واستعملنا فيما يرضيك من حفظ كتابك وفهمه، والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي تحبه وترضاه ، إنك كريم وهاب .... | |
|
ريماس خالد عضو فعال
الدولة : مصر عدد المساهمات : 1026 نقاط : 1276 تاريخ التسجيل : 23/11/2009
| |