يقولون: أول من احتج به إبليس في قوله:
رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي
وفي قوله:
فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ
نسب الإغواء إلى الله، الله تعالى هو الذي قدر أنه يكون غاويا؛ ولكن مع ذلك
فإن له اختيارا، أعطاه الله قدرة واختيارا؛ فلا يجوز نسبة الإغواء مطلقا
إلى الخالق تعالى؛ بل نعترف بأن الله تعالى هو الذي قدر المقادير؛ ولكن لا
يحتج بالقدر على الخالق ولا على المعاصي كما يفعله هؤلاء. وبكل حال إذا آمن العباد بصفة العلم وبصفة القدرة استطاعوا أن يردوا شبه
هؤلاء المخالفين من القدرية. القدرية القدامى الذين يسمون غلاة القدرية
-قال فيهم الشافعي كما ذكرنا: ناظروهم بالعلم؛ يعني بصفة
العلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا؛ وذلك أنهم ينكرون علم الله
وتفاصيل علمه بكل شيء.
وذكر الشيخ ابن تيمية أنهم قليلون
في زمانه، أعني: الذين ينكرون العلم السابق، وأما القدرية الذين ينكرون
القدرة فإنهم كثير؛ يعني: جميع المعتزلة الذين يؤصلون معتقدهم ومذهبهم على
خمسة الأصول. فمن أصولهم: العدل -هكذا يسمونه- فيقولون: إن الله عدل، وإن
الله يأمر بالعدل، فإذا كان هو الذي خلق المعصية في هؤلاء العباد؛ خلق فيهم
الكفر والبدع والمعاصي واقتراف المحرمات فعذبهم على ذلك؛ فإنه ظالم لهم.
وهذا من الخطأ، فإن الله تعالى لو عذب أهل سماواته، وأهل أرضه لعذبهم وهو
غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم. ويرد بذلك أيضا
على القدرية المجبرة الذين يقولون: إن قدرة الله يدخل فيها أفعال المعاصي
وأفعال الطاعات وما أشبهها. ولكن هؤلاء يذكرون أنهم متناقضون، وإنما يحتجون
بهذا عند الوقوع في المعاصي، ولا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي، إنما
إذا وقع الإنسان في معصية فعليه أن يعترف بأنها من نفسه، ويستغفر ربه، وإذا
وقعت منه طاعة وعبادة فعليه أن يعترف لربه بالفضل.
وهكذا كان الأئمة
والعلماء إذا أصابوا يقولون: هذا الصواب من الله، وهو الذي من به علينا،
وهو الذي هدانا ووفقنا، وأعاننا على هذا القول الذي اخترناه والذي صار هو
الصواب. وإذا أخطئوا استغفروا ربهم وقالوا: هذا الخطأ من الشيطان، هذا
الخطأ من أنفسنا ومن الشيطان، والله ورسوله برئ منه -هكذا يقولون-.
تجدون في مؤلفاتهم وكذلك على ألسنتهم: ما كان من صواب فمن الله، وما كان
من خطأ فمن الشيطان أو مني ومن نفسي الأمارة بالسوء، وإن كان الله هو الذي
قدر ذلك، وهو الذي خلق جميع ما في الكون؛ ولكن لما أنه سبحانه أعطى الإنسان
هذه القدرة التي يزاول بها الأعمال؛ كان عليه أن يعترف بفضل الله تعالى.
أما قوله تعالى:
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ
سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ مع قوله في الآية التي قبلها:
وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ فهي من عند الله تعالى خلقا وتقديرا، الحسنة والسيئة هو الذي خلقها وهو
الذي قدرها، وأما قوله:
فَمِنْ نَفْسِكَ يعني: أنك تعتبر ظالما، ويعتبر فعلك هذا ظلما؛ وإن كان ذلك مقدر، وإن كان
الله تعالى هو الذي أقدر هؤلاء على فعل كل شيء؛ ولكن لا ينبغي أن تسند
الأفعال السيئة إلى الله تعالى، فكل ما قدره فإنه خير ولو كان عذابا. يدل
على ذلك قول الله تعالى في كلام مؤمني الجن:
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ
بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا لم يقولوا: أراده الله؛
أُرِيدَ حتى لا ينسب إلى الله الشر،
أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا فنسبوا الرشد والخير إلى الله تعالى، فهذا ما يستفاد من إثبات صفة العلم
والقدرة.