ورقة من حياتي...(هكذا ماتت أمي..)

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ورقة رقم 1
هكذا ماتت أمي
مرّت الأيام وها هو شهر نوفمبر يقترب وسريعا سأقرأ بعيني نفس التاريخ
تاريخ يوم انطفأت فيه شمعة عندما ماتت أمي
لم أحدثكم يوما عن تفاصيل وفاتها
ولا زلت أذكر كلام أخت لي أعرفها عندما حكيت لها لحظات أتتني رحمة من الله ليطمئنني
فأخبرتني أن أكتب عنها لكنني تراجعت
خشيت أن لا تصدقوني
وخشيت أن تظنوا أنني أزكي أمي
لكنني اليوم أكتب...لأنني خشيت أن أنسى....نعم..لا أريد أن أنسى
ودعوني أبدأ بأن أقسم لكم بالله عزّ وجلّ أن ما سأخبركم به هو حق وقد حدث
والله شهيد
وربما شجعني مقطع للشيخ الشعراوي رأيته على اليو تيوب عن تفسير(فكشفنا عنك غطاءك) يحكي فيه عن ما رآه والده وهو يحتضر
بدأ مرض أمي سريعا وانتشر سريعا وكان السرطان قد احتل جزئا من رئتها ونشر قواته ليحتل جسدها كله فوجدناها تارة تشكو من ألم رهيب في عظامها
وتارة أخرى تسعل بقوة
وتارة تتنفس بصعوبة وكأنها تستنشق الهواء من مصفاة مسدودة
ومن رحمة الله أنه يسر أن نجتمع أنا وشقيقاي في الغربة فأتينا بها معنا لنكون حولها

و بين الخوف والرجاء تتنقل ملامح وجهها الطيب فهي تعلم أنها مريضه لكنها ربما تحاول أن لا تتطرق للحديث عن الكلمة التي ترعبنا جميعا(سرطان)
أخبروني بمرضها فتماسكت وخبأت دموعي وعندما كانت تتفلت مني كنت أجيب تساؤلها عن سبب بكائي بشيء آخر عن إبني
استمر المرض في الانتشار و بين حقنة وأخرى مرت أيام وكان لابد من دخولها للمستشفى
ودخلت يوم 28 أغسطس 2006
كانت بكامل وعيها وعقلها تماما
وكانت ترجو أن تظهر التحاليل والفحوصات لعينة أخذت منها بنتيجة سلبية
ومرت الأيام وهي على الفراش تستعين بالأكسجين والمحاليل تصعد وتهبط بالمسكنات تارة وبالمغذيات تارة أخرى
حتى أتى يوم عجيب يا اخوتي لا أريد أن أنساه أبدا
13 سبتمبر 2006
كنت بجوارها أقف ومعنا الممرضات بالحجرة يغيرن المحاليل ويرتبن الفراش وإذا بها تناديني وعلى وجهها نظرة مضيئة وقد لمعت عيناها الرائعتان
-حنان تعالي
-نعم يا ماما
-مش انتِ لابسه اسود؟
-أيوه(كنت أرتدي عباءة سوداء وطرحة سوداء رغم أنني لا أرتدي الأسود فقط لكنني وقتها كنت أرتدي فعلا اللون الأسود)
نظرت لي وابتسمت ابتسامه غريبة وقالت لي
-أنا شايفاهم أبيض!!
توترت وقلت هي تموت الآن واتصلت بزوجي فورا فأتي بسرعة وأتي بعده أخي الصغير ووقفنا حولها وأخبرتهم بما قالته لي
رفعت يديها نحو الجهة اليمنى وقالت
-أرى طاقة نور مفتوحة من هنا
أمسك أخي بيدها اليمني وكنت أقف على يسارها فرأيتها تدير رأسها جهة اليمين من خلف كتف أخي وتنظر وكأنها تخاطب شخصا ما بنظراتها وتشير إلى السماء
وكان الله يلهمني وقتها-لأن هناك أحداث أخرى-بأن أسألها ماذا تشاهدين؟ ما الذي يحدث
فسألتها من تكلمين يا أمي؟
فأخبرتني باسم أبي أسأل الله أن يرحمه!! وقالت أنه دخل الآن من الباب وعلق صورة وخرج
رأته الآن هنا!!
جلسنا قليلا وكأننا ننتظر شيئا ما
أن.....تموت!!
لكنها لم تمت وقتها بل قامت في الفراش وتوضأت وبدأت تصلي وكأنها لا تشكو من أي ألم!!
كنت أنظر إليها بتعجب ولم أكن قد صليت الظهر بعد فأخبرني زوجي أن أذهب لأتوضأ فتركتها وفي رأسي سؤال
لماذا ابتسمت أمي وهي تصلي؟
لقد رأيتها بعيني!
نسيت أن أسألها ونامت وتركوني معها
أتت في المساء صديقتان من صديقاتي
أتيتا لزيارتها وإذا بها تطلب منا أن نمسك بالمصاحف وأن تقرأ كل من سورة
جلست صديقتاي وبدأتا بقراءة يس
ووقفت بجوارها واقتربت من رأسها وأخذت أقرأ لها سورة الملك آية آية ببطء وهي تقرأ خلفي وصوتها ضعيف جدا وهي في غاية الإرهاق
وبينما تقرأ صديقتاي وهي تقرأ أخبرتني بشيء آخر
أخبرتني أنها ترى قناديل من نور تلف حولها فتأثرت وشعرت أن شيء ما يحدث
لا أدري ما هو
ومرت تلك الليلة وأتى اليوم التالي
و في اليوم التالي
14 سبتمبر 2006
ربما بعد المغرب أو بعد العشاء لا أذكر تماما لكنه كان ليلا
كنت لأتحدث معها وإذا بها تخبرني وعلى وجهها القلق أنها ترى وجوها سيئة(قالت أنا شايفه وشوش وحشه)فقلت لها استعيذي بالله يا أمي من الشيطان الرجيم
فاستعاذت فاختفت الوجوه
فورا قالت لي أنها ترى امرأتان تقفان إحداهما تستند على كتف الأخرى وشكلهما قبيح وملابسهما سيئة فسألتها من هما يا أمي؟
صمتت قليلا ثم التفتت لي وقالت(الغيبة النميمة)
تفاجأت وقلت لها (عرفتي منين!!!)
قالت لي (ربنا عرفني) وأخذت يا اخوتي تستغفر الله
قالت
اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك عن كل من اغتبتهم أو نممت عليهم أو ذكرتهم بسوء أو ظلمتهم بأي حال من الأحوال فأغفر لهم واغفر لي وسامحهم وسامحني
اختفت الصور ورفعت يدها وقالت لي ما جعلني أتعجب أكثر وأكثر وقالت
(أنا شايفه مسجد)
وكأنني وقتها يا اخوتي أكذب نفسي وأقول ربما تتوهم أو ربما ضعف نظرها أو ربما أي شيء فسألتها أن تصفه لي بعد أن أمعنت النظر في الحائط وركزت على الألوان حتى أتأكد مما ستقوله
وإذا به تصف المسجد
-اوصفي لي المسجد
-(في ناس واقفين صفوف بيصلوا)
-لابسين إيه
-أبيض
-شكلهم إيه
-شعرهم اسود وبيصلوا
-الأرض لونها إيه؟(وانتظرت أن تقول لي بني أو بيج لأن الحائط هكذا فإذا بها تقول
-أخضر
-أخضر!!
فالتفت لي وقالت وهي تبتسم بوهن وربما كانت مذهولة أيضا وقالت
-أخضر...حرير الجنة
وأكملت وقالت أنه يؤذن للصلاة فسألتها
-هل تسمعينهم يا ماما
-لا..بس شايفاهم
-يعني في حد بيؤذن...مين؟
فالتفتت إليّ وقالت
-بلال...بلال بيؤذن
بعدها تغير وجه أمي للحزن فسألتها فورا...ما الذي يحدث؟فأخبرتني أن باب المسجد أغلق ففكرت سريعا وقلت لها ربما لأنك غير متوضئة وأسرعت أحذر إناء صغير به ماء ووضأتها وهي نائمة على ظهرها وعدلت حجابها ورفعت يدها وأخذت تكلم الله وكانت تقول
-يا رب...مش حا أمد إيدي يا رب...يا رب..
وكأنها يا اخوتي ترى ما تراه وكأنه مجسم أمامها وتكاد تلمسه وبالفعل أخبرتني أن الباب فتح فكبرت وبدأت تصلي وأنا واقفة بين الذهول وبين طمأنينة لأنني دائما أسأل الله أن يريني في أمي علامة خير ويطمئنني عليها
صلت أمي ونامت ومرت الليلة وأنا مذهولة أتأمل غرفتها في المستشفى وكانت غرفة خاصة وكيف كانت فيها سكينه وكيف كانت صديقة لي تأتي وتقول لي(غرفة أمك كالقصر!!) وكيف كان زوجي يخبرني أنه عندما يجلس بجوارها يشعر بسكينة وبركة ويختم جزئين من القرآن
في اليوم التالي سألتني أمي أنا و زوجي وقالت
-(هو إيه اللي أنا شفته ده!!!!)
فأخبرها أن الله يطمئن قلبك
في اليوم الثالث
15 سبتمبر 2006
اتصلت بي صديقة وأخبرتني أنها رأت رؤية جميله لأمي واستحت أن تقصها عليّ
فألححت عليها فقالت أنها رأت أمي تحملها الملائكة في شيء بين الأرض والسماء ونحن ننظر إليها بعد موتها
وظللت بعدها أكرر الدعاء
اللهم أرني في أمي علامة خير وطمئنني يا رب
مرت الأيام واشتد المرض والألم وكل أشعة أسوأ من التي تسبقها لكنها صامدة
تصلي على ظهرها وفي أيامها الأخيرة بعد مرور شهر من هذه الأحداث ربما
كانت تفتح عينيها أحيانا وأجدها تكبر وتصلي فأقول يا ماما أنت مش متوضية حتى نهاني زوجي وقال لي أتركيها
جاء رمضان وأرادت أن تصوم فنهاها الجميع فبكت
وجاء زوجي فأخبرته أنا تريد أن تصوم فقال لها رحمة بها ليطيب خاطرها
- طيب حاولي ولو تعبتي افطري (وكان يعلم أنها لن تتحمل وكنا نعلم أن المحاليل لن تفصل عن كفيها وذراعيها)وبالفعل بدأت أول يوم لكنها فتحت عينيها في أول النهار وكانت أصلا لا تأكل ...لكنها شربة الماء التي تبلل حلقها ي التي جعلتها تفطر وتناولت الدواء ونامت
بعدها مرت أيام قليلة أقل من أسبوع وهي في غيبوبة
كنت أتأمل وجهها وهي نائمة وأتساءل ماذا ترى وهل تسمعني؟
استيقظت يوما وإذا بأخي طارق يتصل...
ماما نبضها ضعيف...جدا...جدا
ذهبنا بسرعه ووقفنا بجوارها نتأمل الأجهزة وإذا بالنبض يعلو قليلا
وكأنها تنتظر أن يصل أخي الآخر فقد أخبرناه وهو في الطريق
تركونا وحدنا أنا وأخي طارق وإذا به يخبرني أنه يريد أن يوضيء أمي
أحضر الماء ومسح وجهها ووضأها
وكنت أعرف أن الملائكة تحضر عند الوفاة فوقفت أدعو لها وأنا أبكي
بعدها دخل أخي عصام ووقف بجوار أذنها وقال
-أنا جيت يا ماما أنا هنا
انخفض النبض فجأة.....حتى توقف مؤشر الجهاز عند الصفر وتوقف صوته
بكيت كثيرا حتى شعرت أن البكاء انتهى
بكيت حتى شعرت أنني كالصنم لا أستطيع البكاء
ماتت أمي في يوم9 نوفمير 2006
في اليوم التالي
ذهبت لأشارك في تغسيلها وتكفينها وكانت المرة الأولى
أذكر أنني رأيت من قبل أمها(جدتي)وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة وكان زوج خالتي يتلو القرآن بصوت عالي بجوارها ورأيتها وسمعتها وهي تنطق الشهادين
لكن أن أغسل أحد...كانت المرّة الأولى
اللهم أرني في أمي علامة خير وطمئنني يا رب
دخلت للمغسلة وهي هنا بالكويت بجوار المقابر وهنا الإهتمام كبير والأمر منظم
رأيت أمي فذهبت وفككت الملاءة وكشفت وجهها وإذا بوجهها الذي كان من شدة المرض قد اختفى لحمه يعود ممتلئا وإذا بابتسامة خفيفة تظهر أسنانها على وجهها المطمئن
فناديت على زوجة أخي وقلت لها أنظري!!
فتعجبت مثلي
قبلت أمي ووقفت حتى دخلت النساء ونظرن إلى أمي وسألتني إحداهن
(هل هي أمك؟)قلت نعم قالت(ما شاء الله عليها)
كانت خفيفة كالفراشة ونظيفة كالطفل الرضيع ولم يخرج منها أذى ولا رائحة خبيثة
شاركت معهن ورأيت طبقات الكفن الأبيض والحجاب وكيف أنار وجه أمي بعد أن لفوها به
كانت توصيني دائما أن أغسلها وأكفنها
استأذن بعدها اخوتي و زوجي ورأى الجميع ما رأيت...نور على وجهها فاستبشرنا
وما طمأنني أكثر رحمة أخرى من الله عزّ وجل
أتت في نفس الوقت طفلة صغيرة 11 شهر كفنوها في نفس المكان ووضعوها بجوار أمي فنظرت يا اخوتي ووالله ما رأيت إلا رحمة من الله عزّ وجل بتلك الطفلة
هنا انتهى دوري وكانت أصعب اللحظات ونحن نسير بالسيارة وأنا أرى القبور في صفوف سأتركها الآن وحدها هنا...يا الله
اللهم اجزها عني وعن اخوتي كل خير وارحمها وأسترها وأدخل عليها السرور كما كانت دائما تدخله عليّ وعلينا
يا صحبة الخير
أنا لا أزكي أمي على الله
وأحسبها على خير

لكنني أحببت أن أخبركم عنها تذكرة بأمهاتكم لتبروهن وليسرع كل منكم إلى أمه فيقبل رأسها ويسترضيها
ولتسرع كل من ترفع صوتها على أمها وتطلب منها السماح
وإن كنت في غربة فأرفع سماعة الهاتف وكلمها الآن ولا تغب عليها وتحرق قلبها عليك
وإن كنت على خلاف معها فهرول قبل أن يفرق بينكما الموت
أخيرا
لم تكن أمي فقيهة ولا شيخة وعالمة في أصول الدين
لكنها دائما كنت تسبح على مسبحتها ذات المئة حبة
وكانت دائما تضحك فتضحكنا
وكانت تتصدق كثيرا
وكانت أول من يصل رحمها ورحمنا من أهل أبي حتى بعد وفاته فترفع سماعة الهاتف وتتصل بالجميع في الأعياد وفي رمضان
أصلحت بين أفراد العائلة
وخدمت أختها من قبل وظلت تحت قدميها تنظفها وتحممها وتقلبها بحنان حتى توفاها الله وهي تدعو لها

هذه كانت أمي
وهكذا ماتت أمي
أسألكم الدعاء لها
وأوصيكم أن تسرعوا الآن لبر أمهاتكم قبل أن تردوا على موضوعي[/size]

_________________

اللهم كما علمت آدم علمنا وكما فهمت سليمان فهمنا
اللهم كما أتيت داود وسليمان علماً علمنا
والحمد لله الذى فضلنا على كثير من خلقه تفضيلا

ماشاء الله الله يختم لنا بخير
تسلمين

ماذا أقول لكـ يا سيدة القصر فأنت منبع الحروف والمعانى
وبحور الكلام ..
كيف وأنا دائما أقف أمامكـ .. صامت..
من جمال ما أراه
ومن حسن أبداعكـ وصياغتكـ المتقنة ...شكرا لكى سيدة القصر

_________________
<br>

شكرا لكى نبيله

879