هل بارك الله تعالى حول المسجد الأقصى فقط، ولم يبارك فيه؟!!
ورد في الآية الأولى من سورة الإسراء عن المسجد الأقصى قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}.
وهنا نتوقف قليلاً لنرسل العنان لاستفسار جدير بالاعتبار ألا وهو:
ما الحكمة من ورود الآية الخاصة بالمسجد الأقصى {الذي باركنا حوله}، فما الحكمة من ورودها حوله وعدم ورودها فيه؟
فهل معنى ذلك أن البركة حوله وليس بالمسجد الأقصى أية بركة؟!!
بالطبع نحن لا نعترض، ولكن نطلب الحكمة والمعنى المراد. فيظهر للمرء من آية الإسراء ألاَّ بركة في المسجد الأقصى، بل حوله.
فكيف ذلك والمسجد الأقصى قبلةٌ للمصلين ومنذ عهد سيدنا موسى وهارون إلى عهد سيدنا داوود وسليمان وعهد سيدنا عيسى المسيح عليهم السلام، كان الناس جميعاً يؤمُّون لقبلة المسجد الأقصى كما كانوا يوجِّهون وجهتهم مستقبلين المسجد الأقصى في صلاة نفوسهم وعروجها إلى ذي الجلال والإكرام، تماماً كما نحن نفعل باتجاهنا نحو الكعبة المشرَّفة بإمامنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أرشدونا إلى الوجه الصحيح بارك الله فيكم.
الجـواب:
المسجد الأقصى قبلة الله، ووجهة أمم عديدة ولعهود متتالية، هوت أفئدة المصلِّين إليه كما هوت إلى المسجد الحرام من قبله ومن بعده.
فيا ترى ما السر من أننا نولي وجوهنا شرط المسجد الحرام، أو المسجد الأقصى ونجعل من أحدهما قبلة لنا في صلاتنا؟!
فهل نعبد نحن البيوت والأحجار يا ترى؟! بالطبع لا.
إذن فما الغاية من اتجاهنا نحو البيوت والأحجار؟! وديننا قضى على الوثنية وأزهق عبادة الأصنام وأبطلها وكذلك فعلت الأديان السماوية من قبل (اليهودية والنصرانية)، فجميعها دعت وأكَّدت على وحدانية الله وأنه ما أفلح وجه صُلي إليه، وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. قال تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً..} سورة النساء (36).
كما قال تعالى في سورة المائدة (72) قول سيدنا عيسى: {.. وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار}.
إذن لا بدَّ من غاية عظيمة منطوية وراء أمر الإله العظيم لعباده بالاتجاه نحو المسجد الأقصى من بعد اتجاه الناس إلى المسجد الحرام أولاً ومن ثمَّ تحويل القبلة إلى المسجد الحرام ثانية وحتى الآن.
أقول: إن أمر تحديد القبلة والوجهة في الصلاة أمر مرتبط أوثق الارتباط بالإمام، ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس المراد والقصد: المكان الذي نتوجه إليه بحدِّ ذاته.
فالمسجد الحرام مسجدٌ مبنيٌّ من الحجارة كغيره من المساجد، وكذلك المسجد الأقصى.. إذن المراد من الوجهة إلى القبلة هو أن تسري نفوسنا في صلاتنا إلى ذلك البيت فتجتمع مع إمامها رسول الله الذي نفسه صلى الله عليه وسلم دوماً مقبلة على الله من ذلك المكان (أي القبلة) فتعرج بمعيتها وتدخل على الله بصحبة تلك النفس الزكية الطاهرة.
قال تعالى مخاطباً رسوله في سورة البقرة (150): {ومن حيث خرجت}: يا محمد. {فولِّ وجهك شرط المسجد الحرام}: لتكون دائم الإقبال على الله من ذلك المكان. {وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره..}: لتجتمعوا برسول الله.
إذن أول الإسلام أُمِرَ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالتوجه لبيت المقدس وبالآية السابقة أُمِرَ بالتوجه للبيت الحرام، والسبب في ذلك الارتباط بالإمام وللحاق به حيثما كان.
فالتوجه للكعبة للاقتداء والارتباط بالرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان التوجه لبيت المقدس ليتم اقتداء وارتباط المصلِّين بأئمتهم رسل الله صلوات الله عليهم أجمعين.
إذن القبلة مكان اجتماع نفوس المصلِّين بإمامهم رسول العصر صلى الله عليه وسلم ليكون بابهم للدخول على الله لينالوا منه سبحانه وتعالى الخير والعطاء والبركات والمكرمات، وذلك ما كان في عهد سيدنا موسى وهارون وسيدنا داوود وسليمان وسيدنا عيسى المسيح حينما ارتبط بهم المؤمنون في عصورهم وجعلوهم أئمة لهم في صلواتهم حين توجههم إلى قبلتهم بيت المقدس حيث التقاء المصلِّين بالإمام.
ومن هنا قال تعالى عن المسجد الأقصى: {الذي باركنا حوله}، أي كان الرسل يقبلون من القدس ويصلون لله. وكثيرٌ من بني إسرائيل تفضَّل الله عليهم هناك بالإيمان.
كثيرٌ من المؤمنين منهم ارتقوا فغدوا أهل إحسان، أهل تقوى وأولوا بصائر كما بعهد سيدنا داوود وسيدنا سليمان أصبح هناك نهضة إيمانية عظيمة شملت كثيراً من بقاع الأرض.
أي كان بيت المقدس هو مركز انطلاق وعروج الأنفس التي من حوله إلى الله، فكان المؤمنون من كافة أنحاء الأرض يتجهون إلى المسجد الأقصى لينالوا الفضل من الله، قال تعالى في سورة البقرة (148): {ولكلٍّ وجهة هو مولِّيها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعاً}: كلكم بيد الله يجمعكم على هذا الإمام بلمحة واحدة، فأينما كنت بالهند بالسند، أينما كنت تجتمع مع الإمام. {إن الله على كل شيء قدير}: وكل واحد واجتهاده بمقدار عمله وحسب حاله.
إذن ليس هناك ثمة فرق بين القبلتين، المسجد الحرام والمسجد الأقصى حين كان الأقصى قبلة المؤمنين في صلاتهم من قبل، فكل منهما كان المراد من التوجه إليه واستقباله هو صحبة (الإمام) رسول الله صلى الله عليه وسلم النفسية والعروج بمعيته صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى، وليست الحجارة ولا المكان.
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حبُّ من سكن الديارا
نُقل هذا الموضوع من علوم وأبحاث العلامة الكبير محمد أمين شيخو