سورة فاتحة الكتاب
سورة البقرة
سورة فاتحة الكتاب
وهي مكية في قول الأكثرين ، وهي سبع آيات ، وتسع وعشرون كلمة ، ومائة واثنان
وأربعون حرفا .
عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم - : " الحمد لله رب العالمين ، سبع آيات ،
إحداهن بسم الله الرحمن الرحيم
، وهي السبع المثاني ، وهي أم القرآن ، وهي فاتحة
الكتاب " .
قال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - : " نزلت فاتحة الكتاب ب " مكة " من
[ كنز ] تحت العرش " .
" " صفحة رقم 160 " "
وقال مجاهد - رضي الله عنه - " فاتحة الكتاب أنزلت بالمدينة " .
قال الحسين بن الفضل : لكل عالم هفوة " وهذه نادرة من مجاهد ؛ لأنه تفرد بها ،
والعلماء على خلافه .
وقد صح عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم
وفخّم أنها أول ما نزل من القرآن وأنها السبع المثاني ، [ وسورة الحجر مكية ] بلا خلاف ،
ولا يمكن القول بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان ب " مكة " بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب .
قال بعضهم : ويمكن الجمع بين القولين بأنها نزلت مرتين : مرة ب " مكة " ، ومرة
ب " المدينة " .
ولها أسماء كثيرة ، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى :
فالأول : " فاتحة الكتاب " سميت بذلك ؛ لأنه يفتتح بها في المصاحف والتعليم ،
والقراءة في الصلاة . وقيل : لأنها أول سورة نزلت من السماء .
الثاني : سورة الحمد ؛ لأن أولها لفظ الحمد .
الثالث : " أم القرآن " قيل : لأن أم الشيء أصله ، ويقال لمكة : أم القرى : لأنها أصل
البلاد ، دحيت الأرض من تحتها .
وقال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن حبيب قال : سمعت أبا بكر القفال قال :
سمعت أبا بكر بن دريد يقول : " الأم في كلام العرب الراية التي ينصبها العسكر " .
" " صفحة رقم 161 " "
قال قيس بن الخطيم : [ الوافر ]
37 - نصبنا أمنا حتى ازعرروا
وصاروا بعد ألفتهم شلالا
فسميت هذه السورة بأم القرآن ؛ لأن مفزع أهل الإيمان إلى هذه السورة ، كما أن
مفزع العسكر إلى الراية . والعرب تسمي الأرض أما ، لأن معاد الخلق إليها في حياتهم
ومماتهم ، ولأنه يقال : أم فلان فلانا إذا قصده .
والرابع : السبع المثاني ، سميت بذلك ؛ قيل : لأنها مثنى نصفها ثناء العبد للرب ،
ونصفها عطاء الرب للعبد .
وقيل : لأنها تثنى في الصلاة ، فتقرأ في كل ركعة .
وقيل : لأنها مستثناة من سائر الكتب ، قال عليه الصلاة والسلام : " والذي نفسي بيده
ما أنزلت في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في الفرقان مثل هذه
السورة ، فإنها السبع المثاني ، والقرآن العظيم " .
وقيل : لأنها سبع آيات ، كل آية تعدل قراءتها بسبع من القرآن ، فمن قرأ الفاتحة
أعطاه الله - تعالى - ثواب من قرأ كلّ القرآن .
وقيل : لأنها نزلت مرتين : مرة ب " مكة " ومرة ب " المدينة " .
وقيل : لأن آياتها سبع ، وأبواب النيران سبعة ، فمن قرأها غلقت عنه [ أبواب النيران
السبعة ] .
والدليل عليه ما روي أن جبريل - عليه الصلاة والسلام - قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم )
وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم - : " يا محمد ، كنت أخشى العذاب على
أمتك ، فلما نزلت الفاتحة أمنت ، قال : لم يا جبريل ؟ قال : لأن الله - تعالى - قال : ( وإن
جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ( [ الحجر : 43 ، 44 ] ،
وآياتها سبع ، فمن قرأها صارت كل آية طبقا على كل باب من أبواب جهنم ، فتمر أمتك
عليها سالمين " .
وقيل : لأنها إذا قرئت في الصلاة تثنى بسورة أخرى .
وقيل : سميت مثاني ؛ لأنها أثنية على الله تعالى ومدائح له .
" " صفحة رقم 162 " "
الخامس : " الوافية " كان سفيان بن عيينة - رضي الله عنه - يسميها بهذا الاسم .
وقال الثلعبي : وتفسيرها أنها لا تقبل التنصيف ، ألا ترى أن كل سورة من القرآن لو
قرئ نصفها في ركعة ، والنصف الثاني في ركعة أخرى لجاز ؟ وهذا التنصيف غير جائز في
هذه السورة .
السادس : " الوافية " سميت بذلك ؛ قيل : لأن المقصود من كل القرآن الكريم تقدير
أمور أربعة : الإلهيات ، والمعاد ، والنبوات ، وإثبات القضاء والقدر لله - تعالى - فقوله :
) الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ( [ الفاتحة : 2 - 3 ] يدل على الإلهيات .
وقوله : ( مالك يوم الدين ( [ الفاتحة : 4 ] يدل على المعاد .
وقوله : ( إياك نعبد وإياك نستعين ( [ الفاتحة : 5 ] يدل على نفي الجبر ، والقدرة
على إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره .
وقوله تعالى ) اهدنا الصراط المستقيم ( [ الفاتحة : 6 ] إلى آخرها يدل - أيضا - على
إثبات قضاء الله - تعالى - وقدره .
وعلى النبوات كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
السابع : " الكافية " لأنها تكفي عن غيرها ، وغيرها لا يكفي عنها ، روى محمود بن
الربيع ، عن عبادة بن الصامت - رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
" " صفحة رقم 163 " "
وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم : " أم القرآن عوض عن
غيرها ، وليس غيرها عوضا عنها " .
الثامن : " الأساس " قيل : لأنها أول سورة من القرآن ، فهي كالأساس .
وقيل : إن أشرف العبادات بعد الإيمان هي الصلاة ، وهذه السورة مشتملة على كل ما
لا بد منه في الإيمان ، والصلاة لا تتم إلا بها .
التاسع : " الشفاء " عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم : " فاتحة الكتاب شفاء من كل سم " .
ومر بعض الصحابة - رضي الله عنهم - برجل مصروع فقرأ هذه السورة في أذنه ،
فبرئ ، فذكروه لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : " هي أم القرآن ، وهي شفاء من كل داء " .
العاشر : " الصلاة " قال عليه الصلاة والسلام : يقول الله تعالى : " قسمت الصلاة بيني
وبين عبدي نصفين " ، والمراد هذه السورة .
وقيل : لها أسماء غير ذلك .
وقيل : اسمها " السؤال " .
وقيل - أيضا - : أسمها " الشكر " .
وقيل : اسمها - أيضا - " الدعاء " .
وقيل : " الرقية " لحديث الملدوغ .
" " صفحة رقم 164 " "
فصل في فضائلها
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه - عن النبي - ( صلى الله عليه وسلم )
وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم - أنه قال : " فاتحة الكتاب شفاء من السم " .
وعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم - : " إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب
حتما فيقرأ صبي من صبيانهم في المكتب : ( الحمد لله رب العالمين ( [ الفاتحة : 2 ]
فيسمعه الله - تعالى - فيرفع عنهم بسببه العذاب أربع سنين " .
وعن الحسن - رضي الله عنه - قال : " أنزل الله - تعالى - مائة وأربعة كتب :
التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان ، ثم أودع علوم هذه الأربعة في القرآن ، ثم أودع
علوم القرآن في المفصل ، ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة ، فمن علم تفسير الفاتحة ،
كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة ، ومن قرأها ، فكأنما قرأ التوراة والإنجيل ،
والزبور ، والفرقان " .
وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال : مر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
" " صفحة رقم 165 " "
وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم - على أبيّ بن كعب - رضي الله عنه -
وهو قائم يصلي فصاح به فقال له : تعالى يا أبيّ ، فعجّل أبيّ في صلاته ، ثم جاء لرسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم فقال : " ما منعك يا
أبيّ أن تجيبني ، إذ دعوتك ؟ أليس [ الله تعالى يقول ] : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله
وللرسول إذا دعاكم ( [ الأنفال : 24 ] قال أبيّ - رضي الله عنه - لا جرم يا رسول الله لا
تدعوني إلا أجبتك ، وإن كنت مصليا ، فقال : " أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل في التوراة ،
وفي الإنجيل ، وفي الزبور ، ولا في الفرقان مثلها " ؟ فقال أبيّ - رضي الله عنه - : نعم يا
رسول الله ، قال : " لا تخرج من باب المسجد حتى تتعلمها - والنبي ( صلى الله عليه وسلم )
وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم يمشي يريد أن يخرج من المسجد ، فلما بلغ
الباب ليخرج ، قال أبيّ : السورة يا رسول الله ، فوقف فقال : " نعم كيف تقرأ في صلاتك " ؟
فقال أبيّ : [ إني أقرأ ] أم القرآن ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وشرّف
وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم : " والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ، ولا في الإنجيل ،
ولا في الزبور ، لا في القرآن مثلها ، إنها السبع المثاني التي آتاني الله عز وجل " .
" القول في النزول "
ذكروا في كيفية نزول هذه السورة أقوالا :
أحدها : أنها مكية ، روى الثعلبي بإسناده عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - أنه
قال : " نزلت فاتحة الكتاب ب " مكة " من كنز تحت العرش " ثم قال الثعلبي : وعليه أكثر
" " صفحة رقم 166 " "
العلماء - رحمهم الله تعالى - وروى أيضا بإسناده عن عمرو بن شرحبيل - رضي الله عنه -
أنه قال : أول ما نزل من القرآن : ( الحمد لله رب العالمين ( [ الفاتحة : 2 ] ، وذلك أن رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم أسر إلى خديجة
- رضي الله عنها - فقال : " لقد خشيت أن يكون خالطني شيء " فقالت : وما ذاك ؟ قال : إنني إذا
خلوت سمعت النداء ) اقرأ ( [ العلق : 1 ] ، ثم ذهب إلى ورقة بن نوفل ، وسأله عن تلك
الواقعة ، فقال له ورقة : إذا أتاك النداء ، فاثبت له ، فأتاه جبريل - عليه الصلاة والسلام - فقال
له : قل : ( بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ( [ الفاتحة : 1 - 2 ] .
وبإسناده عن أبي صالح ، عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال : قام النبي
( صلى الله عليه وسلم ) وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم ب " مكة " فقال :
" بسم الله الرحمن الرحيم
" ، فقالت قريش : رضّ الله فاك .
القول الثاني : أنها نزلت ب " المدينة " ، روى الثعلبي بإسناده ، عن مجاهد أنه قال :
" فاتحة الكتاب أنزلت بالمدينة " .
قال الحسين بن الفضل : لكل عالم هفوة ، وهذه هفوة مجاهد ؛ لأن العلماء - رحمهم
الله تعالى - على خلافه .
ويدل عليه وجوه :
الأول : أن سورة الحجر مكية بالاتفاق ، ومنها قوله تعالى : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني
والقرآن العظيم ( [ الحجر : 87 ] ، وهي فاتحة الكتاب ، وهذا يدل على أنه - تعالى - آتاه
هذه السورة فيما تقدم .
" " صفحة رقم 167 " "
وهذا ليس فيه دليل ، لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : " أعطيت خمسا لم
يعطهن أحد . . . " الحديث ، فيكون هذا الإتيان بالنسبة إلى اللوح المحفوظ ، فإن منع في
البعض فلا يمنع في الشفاعة .
الثاني : أنه يبعد أن يقال : إنه أقام ب " مكة " بضع سنين بلا فاتحة الكتاب .
الثالث : قال بعض العلماء : هذه السورة نزلت ب " مكة " مرة ، وب " المدينة " مرة
أخرى ، فهي مكية مدنية ، ولهذا السبب سماها الله - تعالى - بالسبع المثاني ؛ لأنه ثنى
إنزالها ، وإنما كان كذلك ؛ مبالغة في تشريفها . وأجمعت الأمة على أن الفاتحة سبع آيات .
وروي شاذا عن الحسين الجعفي : أنها ست آيات ، وأجمعت الأمة - أيضا - على
أنها من القرآن .
ونقل القرطبي : أن الفاتحة مثبتة في مصحف ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه -
" " صفحة رقم 168 " "
( الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )
قولُه تعالى : ( الْحَمْدُ للَّهِ ) .
الحمدُ : الثناءُ على الجَمِيل سواءٌ كانت نِعمةً مُبْتدأة إلّى أَحَدٍ أَمْ لاَ .
يُقال : حَمَدْتُ الرجلَ على ما أَنْعَمَ به ، وحمدتُه على شَجَاعته ، ويكون باللسانِ وَحْدَهُ ، دون عمل الجَوَارح ، إذ لا يُقالُ : حمدت زيداً أيْ : عملت له بيدي عملاً حسناً ، بخلاف الشكر ؛ فإنه لا يكونُ إلاّ على نعمةٍ مُبْتَدأةٍ إلى الغير .
يُقال : شَكَرْتُه على ما أعطاني ، ولا يُقالُ : شكرتُه على شَجَاعَتِه ، ويكون بالقلبِ ، واللِّسانِ ، والجَوَارح ؛ قال الله تعالى : ( اعْمَلُو ا آلَ دَاوُودَ شُكْراً ( [ سبأ : 13 ] وقال الشاعرُ : [ الطويل ] .
37 - أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلاثَةً
يَدِي وَلِسانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَبَّبَا
فيكونُ بين الحَمْدِ والشُّكْرِ عُمُومٌ وخُصُوصٌ من وجه .
وقيل : الحمدُ هو الشكر ؛ بدليلِ قولِهم : " الحمدُ لِلَّهِ شُكراً " .
وقيل : بينهما عُمومٌ وخصوص مُطْلق .
والحمدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ .
وقيلَ : الحمدُ : الثناءُ عليه تعالى [ بأوصافِه ، والشكرُ : الثناءُ عليهِ بِأَفْعاله ] فالحامدُ قِسْمَانِ : شاكِرٌ ومُثْنٍ بالصفاتِ الجَمِيلة .
وقيل : الحمدُ مَقْلُوبٌ من المَدْحِ ، وليس بِسَدِيدٍ - وإِن كان منقولاً عن ثَعْلَب ؛ لأنَّ المقلوبَ اقلُّ استِعمالاً من المقلوب منه ، وهذان مُسْتَوِيانِ في الاستعمالِ ، فليس ادعاءُ قلبِ أَحَدِهَما مِنَ الآخر أَوْلَى من العَكْسِ ، فكانا مادّتين مُسْتَقِلَّتَيِن .
" " صفحة رقم 169 " "
وأيضاَ فإنه يمتنعُ إطلاقُ المَدْحِ حيثُ يَجُوزُ إطلاقُ الحَمْدِ ، فإنه يُقالُ : حمدتُ الله - تعالى - ولا يقال : مَدَحْتُه ، ولو كانَ مَقْلُوباً لما امتنع ذلك .
ولقائلٍ : أَنْ يقولَ : منع من ذلك مانِعٌ ، وهو عَدَمُ الإِذْنِ في ذلك .
وقال الرَّاغِبُ : " الحَمْدُ لله " : الثناءُ بالفَضِيلَةِ ، وهو أخصُّ من المدحِ ، وأَعَمُّ من الشُّكْرِ ، فإنَّ المدْحَ يقال فيما يكونُ من الإنسانِ باختيارِه ، وما يكونُ منه بغَيْرِ اختيار ، فقد يُمْدَح الإنسانِ بطولِ قَامَتِهِ ، وصَبَاحةِ وجهه ، كما يمدح ببذل ماله وشجاعته وعلمه ، والحمدُ يكونُ في الثَّاني دُونَ الأوّلِ .
قال ابنُ الخَطِيبِ - رحمه الله تعالى - : الفَرْقُ بين الحَمْدِ والمَدْحِ من وجوه : أحدها : أن المَدْحَ قد يحصلُ لِلحَيِّ ، ولغيرِ الحَيِّ ، أَلاَ تَرَى أَنَّ من رَأَى لُؤْلُؤَةً في غايةِ الحُسْنِ ، فإنه يَمْدَحُها ؟ فثبتَ أنَّ المدحَ أَعمُّ من الحمدِ .
الثَّاني : أن المدحَ قد يكونُ قَبْلَ الإِحْسَانِ ، وقد يكونُ بعدَه ، أما الحمدُ فإنه لا يكونُ إلاَّ بعد الإحسان .
الثالث : أنَّا المدحَ قَدْ يكونُ مَنْهِياً عنه ؛ قال عليه الصلاةُ والسلامُ : " احْثُوا التُّرَابَ في وُجُوهُ المَدَّاحينَ " . أما الحمدُ فإنه مأمورٌ به مُطْلَقاً ؛ قال - عليه الصلاة والسلام - : " مَنْ لَمْ يَحْمَدِ النَّاسَ لَمْ يَحْمَدِ اللهَ " الرابعُ : أنَّ المدحَ عبارةٌ عنِ القولِ الدَّالُّ على كونه مُخْتَصاً بنوع من أنواع الفَضَائل .
وأمّا الحمدُ فهو القولُ الدَّالُّ على كونه مختصَّا بِفَضيلة مُعَيَّنَةٍ ، وهي فضيلةُ الإنعامِ والإحسان ، فثبت أنَّ المدحَ أعمُّ من الحمدِ .
وأمَّا الفرقُ بين الحمدِ والشُّكرِ ، فهو أنَّ الحمدَ يَعَمُّ إذا وَصَلَذلك الإنْعَامُ إليك أَوْ إلَى غَيْرِك ، وأما الشُّكْرُ ، فهو مُخْتَصٌّ بالإنعامِ الواصلِ إليك . وقال الرَّاغِبُ - رحمه الله - : والشكرُ لا يُقالُ إلاَّ في مُقَابلة نعمة ، فكلُّ شُكْرٍ حَمْدٌ ، وليس كُلُّ حمدٍ شُكْراً ، وكل حمد مَدْحٌ ، وليس كُلُّ مَدْحٍ حَمداً .
" " صفحة رقم 170 " "
ويقال : فُلانٌ مَحْمُودٌ إذَا حُمِد ، ومُحَمَّدٌ وُجِدَ مَحْمُوداً ، ومحمد كثرت خصالُه المحمودَةُ .
واحمدُ أَيْ : أَنَّهُ يَفُوقُ غَيْرَه في الحَمْدِ .
والألفُ : واللام في " الحَمْد " قِيل : للاستغراقِ .
وقيل : لتعريفِ الجِنْس ، واختاره الزَّمَخْشَرِيُّ ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
38 - . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إلَى الْمَاجِدِ الْقَرْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ
وقيل : للعَهْدِ ، ومنع الزمخشريُّ كونَها للاستغراقِ ، ولم يُبَيِّنْ وجهةَ ذلك ، ويشبه أن يُقالَ : إنَّ المطلوبَ من العبدِ إنشاء الحَمْدِ ، لا الإخبار به ، وحينئذٍ يَسْتَحيلُ كونها للاستغراقِ ، إذْ لا يمكنُ العَبْد أن ينشىءَ جميعَ المَحَامِدِ منه ومن غيرِه ، بخلاف كونها للجِنسِ .
والصلُ في " الحَمْدِ " المصدريّة ؛ فلذلك لا يُثَنَّى ، ولا يُجْمَعُ .
وحكى ابنُ الأَعْرَابِيُّ جَمْعَهُ على " أَفْعُل " ؛ وأنشد : [ الطويل ]
39 - وَأَبْيَضَ مَحْمُودِ الثَّنضاءِ خَصَصْتُهُ
بأَفْضَلِ أَقْوَالِي وَأَفْضَلِ أَحْمُدِي
وقرأ الجُمْهُورُ : " الحَمْدُ للهِ " برفْعِ وكسرِ لاَمِ الجَرِّ ، ورفعُهُ على الابتداءِ ، والخبرُ الجارُّ والمجرورُ بعده يَتَعَلَّقُ بمحذوفٍ وهو الخَبَرُ في الحقيقة .
ثم ذلك المحذوفُ إن شئتَ قدَّرْتَهُ [ اسْماً ، وهو المُخْتارُ ، وإن شِئْتَ قَدَّرْتَهُ ] فِعْلاً أَي : الحمدُ مُسْتَقِرٌّ لله ، واسْتَقَرَّ لله .
والدليلُ على اختيارِ القَوْلِ الأَوَّلِ : أَنَّ ذَلك يَتَعَيَّنُ في بَعضِ الصورِ ، فلا أَقَلُّ مِنْ
" " صفحة رقم 171 " "
ترجيحِه في غَيْرِها ، وذلك أنّك إذا قُلْتَ : " خَرجتُ فإِذَا في الدَّارِ زَيْدٌ " وأمَّا في الدَّارِ فَزَيْدٌ " يتعيّنُ في هاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ [ أن يقدر بالاسم ] ؛ لأنَّ " إذا " الفُجائية وأَمَّا الفُجائية وأَمَّا التَّفصِيليَّةُ لا يَلِيهِمَا إلاَّ المبتدأ . وقد عُورِضَ هذا اللَّفظُ بأنه يَتَعيَّنُ تقدير الفِعْلِ في بعضِ الصُّورِ ، وهو ما إِذا وَقَعَ الجَارُّ والمجرورُ صِلَةً لموصولٍ ، نحو : الَّذي في الدارِ فليكن رَاجِحاً في غيره ؟ والجوابُ : أَنَّ ما رجحنا به من باب المبتدإِ ، أَو الخبر ، وليس أَجْنَبِيَّا ، فكان اعتباره أوْلَى ، بخلاف وقوعه صِلةً ، [ والأول غيرُ أَجْنَبِيٍّ ] .
ولا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ قاعدةٍ - ها هنا - لعُمُومِ فائدتها ، وهي أَنَّ الجار والمجرور والظرف إذا وَقَعا صلةً أو صِفَةً ، أو حالاً ، أو خبراً تَعلقا بمحذوفٍ ، وذلك أن المحذوف لا يجوز ظهوره إذا كان كَوْناً مُطلقاً : فأمّا قول الشاعر : [ الطويل ]
40
- لَكَ الْعِزُّ إِنْ مَوْلاكَ عَزَّ ، وَإِنْ يَهُنْ
فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهُونِ كائِنُ
وأما قولُه تبارك وتَعَالى : ( فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ ( [ النمل : 40 ] فلم يقصدْ جعلِ الظَّرفِ كائناً فلذلك ذكر المتعلِّقَ به ، ثم ذلك المحذوفُ يجوزُ تقديرهُ باسمٍ أَوْ فعلٍ إلاّ في الصلَةِ ، فإنه يتعيّنُ أن يكونَ فِعلاً . واختلفُوا : أَيُّ التقديرَيْنِ أَوْلَى فيما عدا الصور المستثناة ؟
فقومٌ رجّحُوا تقديرَ الفِعْلِ ، [ وقومٌ رجَّحُوا تقدير الاسمِ ] ، وقد تقدمَ دليلُ الفريقين . وقُرِىءَ شَاذَّاً بنصب الدالِ من " الحَمْد " ، وفيه وجهان :
أظهرُهُما : انه منصوبٌ على المصدريَّةِ ، ثم حُذِف العاملُ ، ونابَ المصدرُ مَنَابه ؛ كقولِهِم في الأخبار : " حمداً ، وشكراً لا كُفْراً " والتقدير : " أَحمد الله حمداً " ، فهو مصدرٌ نَابَ عن جملةٍ خبريَّةٍ . وقال الطَّبريُّ - رحمه الله تعالى - : " إنَّ في ضمنِهِ أَمْرَ عبادِه أَنْ يُثْنُوا به عليه ، فكأَنَّهُ
" " صفحة رقم 172 " "
قال : " قولوا : الحَمْد للهِ " وعلى هذا يَجِيءُ قُولُوا : إيَّاكَ " .
فعلى هذه العبارة يكونُ من المصادِر النائبَةِ عن الطَّلبِ لا الخبرِ ، وهو محتملٌ للوجْهَيْنِ ، ولكنْ كونُهُ خَبَرِيَّا أَوْلَى من كونه طَلَبياً ، ولا يجوزُ إظهار الناصب ، لئلاَّ يجمعَ بين البدلِ والمُبْدَلِ مِنْه .
والثاني : أنه منصوبٌ على المَفْعُولِ بهِ ، أَي : اجْمَعْ ضَبُعاً ، والأوّلُ أَحْسَنُ ؛ للدَّلالَةِ اللفظيةِ . وقراءَةُ الرفْعِ أمكنُ ، وأَبْلَغُ مِنْ قراءَةِ النَّصب ، لأنَّ الرفعَ في باب المَصَادِر التي أَصْلُها النِّيَابَةُ عَنْ أَفْعَالِها يدل على الثُّبُوتِ والاستقرَارِ ، بخلافِ النَّصبِ ، فإنه يدلُّ على التجددِ والحُدوثِ ، ولذلك قال العلماء - رحمهم الله - : إن جوابَ إِبْرَاهيمَ - عليه الصلاة والسّلام - في قوله تَعَالَى حكايةً عنه : ( قَالَ سَلاَمٌ ( [ هود : 69 ] أَحْسَنُ من قولِ الملائكة : ( قَالُواْ سَلاَماً ( [ هود : 69 ] امتثالاً لقولِه تعالى : ( فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ ( [ النساء : 86 ] .
و " لله " على قراءةِ النصبِ يتعّقُ بمحذوفٍ لا بالمصدرِ ، لأنَّها للبيانِ ، تقديرهُ : أَعْنِي لله ، كقولِهم : " سُقْياً له ورَعياً لك " تقديرُه : " أَعْنِي له ولك " ، ويدلُّ على أنَّ اللام تتعلّقُ في هذا النوع بمحذوف لا بنفس المصدر ، أنَّهم لم يُعْمِلُوا المصدر المتعدِّي في المجرور باللام ، فينصبوه به فيقُولُوا : سُقْياً زيداً ، ولا رَعْياً عمراً ، فدلَّ على أنه ليس مَعْمولاً للمصدرِ ، ولذلك غَلِطَ من جعل قولَه تَعَالَى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ ( [ محمد : 8 ] ، مِنْ بَابِ الاشْتِغَالِ ؛ لأنَّ " لَهُمْ " لا يتعلَّقُ ب " تَعْساً " كما مَرَّ .
ويحتملُ أَنْ يُقالُ : إن اللام في " سُقياً لك " ونحوِهِ مقويةٌ لتعدِيَةِ العامل ؛ لكونِهِ فَرْعاً فيكون عاملاً فيما بعده .
وقُرىءَ : - أَيْضاً - بِكَسْرِ الدَّال ، وجهُهُ : أَنَّها حركةُ إِتباعٍ لكسرَةِ لاَمِ الجَرِّ بعده ، وهي لُغَةُ " تَمِيم " ، وبَعْضِ " غَطَفَان " ، يُتْبِعُونَ الأوّل للثَّاني ؛ للتَّجانسِ . ومنه : [ الطويل ]
41 - . . . . . . . . . . . . . . .
اضْرِبِ السَّاقَيْنُ أُمُّكَ هَابِلُ
" " صفحة رقم 173 " "
بضمِ نُونِ التّثنِيَةِ لأجل ضمّةِ الهَمْزَةِ ، ومثلُه ، [ البسيط ]
42
- وَيْلِمِّهَا فِي هَوَاءِ الْجَوِّ طَالِبَةً
وَلاَ كَهَذَا الَّذِي في الأَرْضِ مَطْلُوبُ
الأصل : وَيْلٌ لأُمِّهَا ، فحذفَ اللامَ الأُولَى ، واستثقَلَ ضَمَّةَ الهمزةِ بعد الكَسْرَةِ ، فنقلَها إلى اللام بعد سَلْبِ حَرَكَتِها ، وحذَفَ الهَمْزَةَ ، ثم أَتْبَعَ اللاَّمَ المِيمَ ، فصار اللفظ : " وَيْلِمِّهَا " .
ومِنْهم مَنْ لا يُتْبِعُ ، فيقول : " وَيْلُمِّهَا " بِضَمِّ اللاَّمِ ، قال : [ البسيط ]
43 - وَيْلُمِّهَا خُلَّةً قَدْ سِيْطَ مِنْ دَمِهَا
فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلافٌ وتَبْديلُ
ويحتملُ أَنْ تَكُونَ هذه القراءةُ مِنْ رَفْعٍ ، وأَنْ تَكُونَ مِنْ نَصْبٍ ، لأنَّ الإعرابَ نُقَدَّرٌ مَنَعَ من ظُهُورِهِ حَرَكَةُ الإتباعِ .
قرىء أيضاً : " لُلَّهِ " بضم لاَمِ الجَرِّ ، قَالُوا : وهي إتباعٌ لحركةِ الدَّالِ وفضّلها الزمخشريُّ على قراءة كَسْرِ الدَّالِ ، مُعَلِّلاً لذلك بِأَنَّ إتباعَ حركَةِ الإعرابِ أَحْسَنُ مِنَ العَكْسِ ، وهي لغةُ بَعْضِ " قَيْس " ، يُتْبِعُون الثانِي نحو : " مُنْحَدُر ومُقُبِلِينَ " بضم الدَّال والقاف لأجل الميم ، وعليه قرىء : ( مُرُدفين ( [ الأنفال : 9 ] بِضَمِّ الراءِ ، إِتْباعاً لِلْمِيمِ .
فهذه أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ في " الحَمْدِ للهِ " .
ومعنى لام الجَرِّ - هنا - الاستحقاقُ أَيْ : الحمدُ مستحقٌّ لله - تعالى - ولها معانٍ أخر نَذْكُرُها وهي :
المُلْكُ : المالُ لِزَيْدٍ . والاستحقاقُ : الجُل لِلْفَرَسِ . والتَّمْليكُ : نحو : وهبتُ لَكَ وَشِبْهُهُ نحو : ( جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ( [ الشورى : 11 ] لتسكنوا إليها .
والنسب : نحو : لِزَيْدٍ عَمٌّ .
والتعليلُ : نحو : ( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ( [ النساء : 105 ] ، والتبليغُ : نحو : قُلْتُ لَكَ .
والتبليغُ : نحو قلتُ لك .
وللتعجُّبِ في القَسَمِ خاصَّةً ؛ كقوله : [ البسيط ]
يتبـــــــــع
المصدر: شبكة الفرسان للعوم الشرعية