صفحة رقم 264 " "
والكتاب - هنا - المُرَاد به القرآن ، وله أسماء :
أحدها : الكِتَاب كما تقدم .
وثانيها : القُرْآن : ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً ( [ الزخرف : 3 ] ، ) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( [ البقرة : 185 ] .
وثالثها : الفُرْقَان : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ( [ الفرقان : 1 ] .
ورابعها : الذِّكْر ، والتَّذْكِرَة ، والذِّكْرَى : ( وَهَ اذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ( [ الأنبياء : 50 ] ، ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( [ الحاقة : 48 ] وقوله تعالى : ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( [ الذاريات : 55 ] .
وخامسها : التَّنْزِيل : ( وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( [ الشعراء : 192 ] .
وسادسها : الحديث : ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ( [ الزمر : 23 ] .
وسابعها : المَوْعِظَة : ( قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ( [ يونس : 57 ] .
وثامنها : الحُكْم ، والحِكْمَة ، والحَكِيم ، والمُحْكَم : ( وَكَذ الِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً ( [ الرعد : 37 ] ، ) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ( [ القمر : 5 ] ، ) يس اوَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ( [ يس : 1 - 2 ] ، ) كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ( [ هود : 1 ] .
وتاسعها : الشِّفَاء : ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ ( [ الإسراء : 82 ] .
وعاشرها : الهُدَى ، والهَادِي ) هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ( [ البقرة : 2 ] ، ) إِنَّ هَ اذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ( [ الإسراء : 9 ] ، ) قُرْآناً عَجَباً يَهْدِى إِلَى لرُّشْدِ ( [ الجن : 1 - 2 ] .
وذكروا له أسماء أُخَر منها :
" الصِّرَاط المستقيم ، والعِصْمَة ، والرَّحْمَة ، والرُّوح ، والقَصَص ، والبَيَان ، والتِّبْيَان ، والمُبِين ، والبَصَائر ، والفَصْلُ ، والنُّجُوم ، والمَثَاني ، والنّعْمَة ، والبُرْهَان ، والبَشِير ، والنَّذِير ، والقَيِّم ، والمُهَيْمِن ، والنور ، والحق ، والعزيز ، والكريم ، والعظيم ، والمبارك " .
قوله تعالى : ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ) .
يجوز أن يكون خبراً كما تقدّم بيانه .
قال بعضهم : هو خبر بمعنى النّهي ، أي : لا ترتابوا فيه كقوله تعالى : ( فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ ( [ البقرة : 197 ] أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا .
قرأ ابن كثير : " فِيهِ " بالإشباع في الوَصْلِ ، وكذلك كل هاء كناية قبلها ساكن يشبعها وصلاً ما لم يَلِهَا ساكن ، ثم إن كان السَّاكن قبل الهاء ياء يشبعها بالكسر ياء ، وإنْ " " صفحة رقم 265 " "
كان غيرها يشبعها بالضم واواً ، ووافقه حفص في قوله : ( فِيهِ مُهَاناً ( [ الفرقان : 69 ] فأشبعه .
ويجوز أن تكون هذه الجملة في محلّ نصب على الحال ، والعامل فيه معنى الإشارة ، و " لا " نافية للجنس محمولة في العمل على نقيضها . " إنَّ " ، واسمها معرب ومبني :
فيبنى إذا كان مفرداً نكرة على ما كان ينصب به ، وسبب بنائه تضمنّه معنى الحرف ، وهو " من " الاسْتِغْرَاقِيَّة يدلّ عليه ظهورها في قول الشاعر : [ الطويل ]
106 - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ
فَقَالَ إلاَ لاَ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى هِنْدِ
وقيل : بني لتركُّبه معها تركيب خمسةَ عَشَرَ ، وهو فاسد وبيانه في غير هذا الكتاب . وزعم الزَّجَّاج أن حركة " لاَ رَجُلَ " ونَحْوِه حركة إعراب ، وإنما حذف التنوين تخفيفاً ، ويدل على ذلك الرجوع إلى هذا الأصل كقوله : [ الوافر ]
107 - ألاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللهُ خَيْراً
يَدُلُّ عَلَى مُحضصِّلَةٍ تَبِيتُ
ولا دليل له لأن التقدير : إَلاَ تَرَونَنِي رَجُلاً ؟
فإن لم يكن مفرداً - وأعني به المضاف والشبيه به - أُعْرِبَ نَصْباً نحو : طلا خيراً من زيد " ، ولا عمل لها في المعرفة ألبتة ، وأما نحو قوله : [ الطويل ] 108 - تُبَكِّي عَلَى زَيْدٍ ولاَ زَيْدَ مِثْلُهُ
بَرِيءٌ مِنَ الحُمَّى سَلِيمُ الجَوَانِحِ
" " صفحة رقم 266 " "
وقول الآخر : [ الوافر ]
109 - أَرَى الْحَاجَاتِ عَنْدَ أَبِي خُبَيْبٍ
نَكِدْنَ وَلاَ أُمَيَّةَ فِي البِلاَدِ
وقول الآخر : [ الرجز ]
110 - لاَ هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ
وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " لا قُرَيْشَ بعد اليَوْمِ ، إذا هلك كِسْرَى ، فلا كسرى بَعْدَه " فمؤوَّل .
و " رَيْبَ " اسمها ، وخبرها يجوز أن يكون الجار والمجرور وهو " فيه " إلاّ أن بني " تميم " لا تكاد تذكر خبرها ، فالأولى أن يكون محذوفاً تقديره : لا ريب كائن ، ويكون الوَقْفُ على " ريب " حينئذ تامَّا ، وقد يحذف اسمها ويبقى خبرها ، قالوا : " لا عليك " أي : لا بأس عليك .
ومذهب سيبويه رحمه الله : أنها واسمها في مَحَلّ رفع بالابتداء ، ولا عمل لها في الخبر .
ومذهب الأخفش : أن اسمها في مَحَلّ رفع ، وهي عاملة في الخبر .
ولها أحكامٌ كثيرة ، وتقسيمات منتشرة مذكورة في كتب النحو .
" " صفحة رقم 267 " "
واعلم أن " لا " لفظ مُشْتَرَك بين النَّفي ، وهي فيه على قسمين :
قسم تنفي فيه الجنس فتعمل عمل إنَّ كما تقدم ، وقسم تنفي فيه الوحدة ، وتعمل حينئذ عمل " ليس " ، ولها قسم آخر ، وهو النهي والدُّعاء فتجزم فعلاً واحداً ، وقد تجيء زيادة كما تقدم في قوله : ( وَلاَ الضَّآلِّينَ ( [ الفاتحة : 7 ] .
و " الرَّيْب " : الشّك مع تهمة ؛ قال في ذلك : [ الخفيف ]
111 - لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ
إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الكَذُوبُ
وحقيقته على ما قال الزَّمخشري : " قلق النفس واضطرابها " .
ومنه الحديث : " دَعْ ما يُرِيبُكَ إلى ما يُرِيبك " . ومنه أنه مَرّ بظبي خائفٍ فقال : " لاَ يُرِبهُ أَحَدق بشيءٍ " .
فليس قول من قال : " الرَّيب الشك مطلقاً " بجيّد ، بل هو أخصّ من الشَّك كما تقدم .
وقال بعضهم : في " الرّيب " ثلاثة معانٍ :
" " صفحة رقم 268 " "
أحدها : الشّك ؛ قال ابن الزِّبَعْرَى : [ الخفيف ]
112 - لَيْسَ فِي الحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وثانيها : التُّهْمَةُ ؛ قال جميل بُثَيْنَةَ : [ الطويل ]
113 - بُثَيْنَةُ قَالَتْ يَا جَمِيلُ أَرَيْتَنِي
فَقُلْتُ : كِلاَنَا يَا بُثَيْنُ مُرِيبُ
وثالثها : الحاجات ؛ قال : [ الوافر ]
114 - قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ
وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَعْنَا السُّيُوفَا
قال ابن الخطيب : الريب قريب من الشك ، وفيه زيادة ، كأنه ظن سوء ، كأنه ظن سوء ، تقول : رَابَني أمر فلان إذا ظننت به سوءاً .
فإن قيل : قد يستعمل الريب في قولهم : " ريب الدهر " و " ريب الزمان " أي : حوادثه ، قال تعالى : ( نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ( [ الطور : 30 ] ويستعمل أيضاً فيما يختلج في القلب من أسباب الغيظ ، كقول الشاعر : [ الوافر ]
115 - قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلُّ رَيْبٍ
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
قلنا : هذا يرجعان إلى معنى الشك ، لأن من يخاف من ريب المنون محتمل ، فهو كالمشكوك فيه ، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن ، فقوله تعالى : ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ( المراد منه : نفي كونه مَظَنَّةً للريب بوجه من الوجوه ، والمقصود أنه لا شُبْهَة في صحته ،
" " صفحة رقم 269 " "
ولا في كونه من عند الله تعالى ولا في كونه معجزاً . ولو قلت : المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله تعالى : ( وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ( [ البقرة : 23 ] .
فإن قيل : لم تأت ، قال ها هنا : " لاَ رَيْبَ فِيهِ " وفي موضع آخر : ( لاَ فِيهَا غَوْلٌ ( [ الصافات : 47 ] قلنا : لأنهم يقدمون الأهمّ ، وهاهنا الأهم نفي الريب بالكليّة عن الكتاب .
ولو قلت : " لا فيه ريب " لأَوْهَمَ أن هناك كتاباً آخر حصل فيه الريب لا ها هنا ، كما قصد في قوله تعالى ) لاَ فِيهَا غَوْلٌ ( تفضيل خمر الجنّة على خمر الدنيا ، بأنها لا تَغْتَال العقول كما تغتالها خمر الدنيا . فإن قيل : من أين يدلّ قوله : " لاَ رَيْبَ فِيهِ " على نفي الريب بالكلية ؟ قلنا القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية ، والدّليل عليه أن قوله : " لا ريب " نفي لماهيّة الريب ؛ ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية ؛ لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهيّة لثبتت الماهية ، وذلك مُنَاقض نفي الماهية ، ولهذا السّر كان قولنا : " لا إله إلا الله " نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى .
وقرأ أبو الشعثاء : " لاَ رَيْبُ فِيهِ " بالرفع ، وهو نقيض لقولنا : " ريب فيه " ، وهذا يفيد ثبوت فرد واحدٍ ، وذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد ، فيتحقق التناقض .
والوقف على " فيه " هو المشهور .
وعن نافع وعاصم أنهما وَقَفَا على " ريب " ، ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً ، ونظيره قوله : ( لاَ ضَيْرَ ( [ الشعراء : 50 ] وقول العرب : " لا بأس " .
واعلم أن الملحدة طعنوا فيه وقالوا : إن عني أنه لا شَكّ فيه عندنا ، فنحن قد نشك فيه ، وإن عني أنه لا شكّ فيه عنده فلا فائدة فيه . الجواب : [ المراد ] أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب
" " صفحة رقم 270 " "
فيه ، والأمر كذلك ؛ لأن العرب مع بلوغهم في الفَصَاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أَقْصَرِ سورة من القرآن ، وذلك يشهد بأنه لقيت هذه الحُجَّة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه .
وقيل : في الجواب وجوه أخر :
أحدها : أن النفي كونه متعلقاً للريب ، المعنى : أنه منعه من الدلالة ، ما إن تأمله المُنْصِف المحق لم يرتب فيه ، ولا اعتبار بمن وجد فيه الريب ؛ لأنه لم ينظر فيه حَقّ النظر ، فريبه غير معتدّ به .
والثاني : أنه مخصوص ، والمعنى : لا ريب فيه عند المؤمنين .
والثالث : أنه خبر معناه النهي . والأول أحسن .
قوله تعالى : ( هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) . يجوز فيه عدة أوجه :
أحدها : أن يكون مبتدأ ، وخبره فيه متقدماً عليه إذا قلنا : إن خبر " لا " محذوف .
وإن قلنا : " فيه " خبرها ، كان خبره محذوفاً مدلولاً عليه بخبر " لا " ، تقديره : لا ريب فيه ، فيه هدى ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر تقديره : هو هدى ، وأن يكون خبراً ثانياً ل " ذلك " ، على أن يكون " الكتاب " صفةً أو بدلاً ، أو بياناً ، و " لا ريب " خبر أول ، وأن يكون خبراً ثالثاً ل " ذلك " ، على أن يكون " الكتاب " خبراً أول ، و " لا ريب " ، خبراً ثانياً ، وأن يكون منصوباً على الحل من " ذلك " ، أو من " الكتاب " ، والعامل فيه على كلا التقديرين اسم الإشارة ، وأن يكون حالاً من الضَّمير في " فيه " ، والعامل ما في الجَارِّ والمجرور من معنى الفعْلٍ ، وجعله حالاًَ مما تقدم : إما على المُبَالغة ، كأنه نفس الهُدَى ، أو على حذف مضاف ، أي : ذا هُدَى ، أو على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل ، وهكذا كلُّ مصدر وقع خبراً ، أو صفة ، أو حالاً فيه الأقوال الثلاثة ، أرجحها الأول .
وأجازوا أن يكون " فيه " صفةً ل " ريب " ، فيتعلّق بمحذوف ، وأن يكون متعلقاً ب " ريب " ، وفيه إشكال ؛ لأنه يصير مطولاً ، واسم " لا " إذا كان مطولاً أعرب إلاّ أن يكون مُرَادهم أنّه معمول لِمَا عليه " ريب " لا لنفس " ريب " .
وقد تقدّم معنى الهدى " عند قوله تبارك وتعالى : ( اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( [ الفاتحة : 6 ] .
و " هُدّى " مصدر على وزن " فُعَل " فقالوا : ولم يجىء من هذا الوزن في المَصَادر إلا " سُرّى " و " بُكّى " و " هُدّى " ، وجاء غيرها ، وهو " لَقِيتُهُ لُقًى " ؛ قال الشَّاعر : [ الطويل ]
116 - وَقَدْ زَعَمُوا حُلْماً لُقَاكَ وَلَمْ أَزِدْ
بحَمْدِ الَّذي أَعْطَاكَ حِلْماً وَلاَ عَقْلا
" " صفحة رقم 271 " "
و " الهدى " فيه لغتان : التذكير ، ولم يذكر اللّحْياني غيره .
وقال الفراء : بعض بني أسد يؤنثه ، فيقولون : هذه هدى .
و " في " معناها الظرفية حقيقةً أو مجازاً ، نحو : " زيد في الدار " ، ) وَلَكُمْ فِى لْقِصَاصِ حَيَاةٌ ( [ البقرة : 179 ] ولها معان آخر :
المصاحبة : نحو : ( ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ ( [ الأعراف : 38 ] .
والتعليل : " إن امرأة النَّارِ في هِرَّةٍ " وموافقة " على " : ( وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ( [ طه : 71 ] [ أي : على جذوع ] ، والباء : ( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ( [ الشورى : 11 ] أي بسببه .
والمقايسة نحو قوله تعالى : ( فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِى لآخِرَةِ ( [ التوبة : 38 ] .
و " الهاء " في " فيه " أصلها الضم كما تقدم من أن " هاء " الكناية أصلها الضم ، فإن تقدمها ياء ساكنة ، أو كسرة كسرها غري الحجازيين ، وقد قرأ حمزة : " لأَهْلِهُ امْكُثُوا " وحفص في : " عَاهَدَ عَلَيهُ الله " [ الفتح : 10 ] ، ) وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ( [ الكهف : 63 ] بلغه أهل الحِجَاز ، والمشهور فيها - إذا لم يلها ساكن وسكن ما قبلها نحو : " فيه " و " منه " - الاختلاس ، ويجوز الإشْبَاع ، وبه قرأ ابن كثير ، فإن تحرّك ما قبلها أُشْبِعَتْ ، وقد تختلس وتسكن ، وقرىء ببعض ذلك كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى .
و " للمتقين " جارّ ومجرور متعلّق ب " هدى " .
وقيل : صفة ل " هدى " ، فيتعلّق بمحذوف ، ومحله حينئذ : إما الرفع أو النصب بحسب ما تقدم في موصوفه ، أي هدى كائن أو كائناً للمتقين .
والحسن من هذه الوجوه المتقدمة كلها أن تكون كل جملة مستقلّة بنفسها ، ف
" " صفحة رقم 272 " "
" الم " جملة إن قيل : إنها خبر مبتدأ مضمر ، و " ذلك الكتاب " جملة ، و " لا ريب " جملة ، و " فيه هدى " جملة ، وإنما ترك العاطف لشدّة الوصل ؛ لأن كلّ جملة متعلّقة بما قبلها آخذة بعنقها تعلقاً لا يجوز معه الفصل بالعطف .
قال الزمخشري : " وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة حيث جيء بها مُتَنَاسقة هكذا من غير حرف نسق . [ وذلك لمجيئها مُتَتَابعة بعضها بعنق ] بعض ، والثانية متحدة بالأولى ، وهلم جَرَّاً إلى الثالثة والرابعة .
بيانه : أنه نبّه أولاً على أنه الكلام المتحدي به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المَنْعُوت بنهاية الكَمَال ، فكان تقريراً لجهة التحدي . ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب ، فكان شهادة بكماله .
ثم أخبر عنه بأنه " هدى للمتقين " ، فقرر بذلك كونه يقيناً ، لا يحوم الشّك حوله ، ثم لم تَخْلُ كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذه الترتيب الأنيق [ من ] نُكْتَةٍ ذات جَزَالة : ففي الأولى الحذف ، والرمز إلى الغرض بألطف وجه .
وفي الثانية ما في التعريف من الفَخَامة . وفي الثانية ما في تقديم الريب على الظَّرف .
وفي الثالثة ما في تقديم " الريب " على الظرف .
وفي الرابعة الحذف ، ووضع المصدر الذي هو " هدى " موضع الوصف الذي هو " هاد " وإيراده منكراً .
" المتقين " جمع " مُتَّقٍ " ، وأصله : مُتَّقِيينَ بياءينِ ، الأولى : لام الكلمة ، والثانية علامة الجمع ، فاستثقلت الكسرة على لام الكلمة ، وهي الياء الأولى فحذفت ، فالتقى ساكنان ، فَحذف إحداهما وهي الأولى .
و " متقٍ " من اتقى يتّقي وهو مُفْتَعِل الوِقَايَةِ ، إلا أنه يطرد في الواو والياءلا إذا كانتا فاءين ، ووقعت بعدهما " تاء " الافتعال أن يبدلا " تاء " نحو : " اتَّعَدض " من الوَعْدِ ، و " اتَّسَرَ " من اليُسْرِ . وَفِعْلُ ذلك بالهمزة شاذ ، قالوا : " اتَّزَرَ " و " اتَّكَلَ " من الإِزَارِ ، والأَكْلِ .
و ل " افتعل " اثنا عشر معنى :
الاتِّخَاذ نحو : " اتقى " .
والتسبب نحو : " اعمل " .
وفعل الفاعل بنفسه نحو : " اضطرب " .
والتخير نحو : " انتخب " .
" " صفحة رقم 273 " "
والخطف نحو : " استلب " .
ومطاوعة " أَفْعَلَ " نحو : " انتصف " .
ومطاوعة " فَعَّلَ " نحو " عمّمته فاعتمّ .
وموافقة " تَفَاعَلَ " و " تَفَعَّلَ " و " اسْتَفْعَلَ " نحو : احتور واقتسم واعتصم ، بمعنى تحاور وتقَسَّم واستعصم .
وموافقة المجرد ، نحو " اقتدر " بمعنى : قَدَرَ .
والإغناء عنه نحو : " اسْتَلَم الحجر " ، لم يُلْفَظْ له بمجرد .
و " الوقاية " : فرط الصيانة ، وشدة الاحتراس من المكروه ، ومنه " فرس وَاقٍ " : إذا كان يقي حافِرهُ أدنى شيء يصيبه .
وقيل : هي في أصل اللَّغة قلّة الكلام .
وفي الحديث : " التَّقِيُّ مُلْجَمٌ " .
ومن الصيانة قوله : [ الكامل ]
117 - سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ
فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتَا بِاليَدِ
وقال آخر : [ الطويل ]
118 - فَاَلْقَتْ قِنَاعً دُوُنَهُ الشَّمْسَ واتَّقَتْ
بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفَّ وَمِعْصَمِ
قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ " الهدى " في القرآن بإزاء ثلاثة عشر معنى :
الأول : بمعنى " البَيَان " قال تعالى : ( أؤلئك عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ( [ البقرة : 5 ] أي : على بيان ، ومثله ، ) وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( [ الشورى : 52 ] أي : لتبين ، وقوله تبارك وتعالى : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ( [ فصلت : 17 ] أي : بَيَّنَّا لهم .
الثاني : الهُدَى : دين الإسلام ، قال تعالى : ( قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى للَّهِ ( [ آل عمران : 73 ] أي : دين الحق هو دين الله .
وقوله : ( إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى ( [ الحج : 67 ] أي : دين الحق .
الثالث : بمعنى " المَعْرِفَة " قال تعالى : ( وَبِ النَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ( [ النحل : 16 ] أي : يعرفون ، وقوله تعالى : ( نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ ( [ النمل : 41 ] أي : أتعرف .
" " صفحة رقم 274 " "
الرابع : بمعنى " الرسول " قال تعالى : ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ( [ البقرة : 38 ] أي : رسول . الخامس : بمعنى " الرشاد " قال تعالى : ( وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ ( [ ص : 22 ] أي أرشدنا .
وقوله : ( عَسَى رَبِّى أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ ( [ القصص : 22 ] .
وقوله تعالى : ( اهْدِنَا الصّرَاطَ ( [ الفاتحة : 6 ] .
السادس : بمعنى : " القرآن " قال تعالى : ( وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى ( [ النجم : 23 ] أي : القرآن .
السابع : بمعنى : بعثة النبي - ( صلى الله عليه وسلم ) - قال تبارك وتعالى : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِى ( [ الشورى : 52 ] .
الثامن : بمعنى " شرح الصدور " قال تعالى : ( فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ( [ الأنعام : 125 ] .
التاسع : التوراة ، قال تبارك وتعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى لْهُدَى ( [ غافر : 53 ] يعني : التوراة .
العاشر : " الجنة " قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ ( [ يونس : 9 ] أي : يدخلهم الجنة .
الحادي عشر : " حج البيت " قال تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ( [ آل عمران : 96 ] أي الحج .
الثاني عشر : " التوبة " قال تعالى : ( وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ( [ يوسف : 52 ] أي : لا يصلح .
الثالث عشر : " التوبة " قال تعالى : ( إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ ( [ الأعراف : 156 ] أي : تُبْنَا ورجعنا .
فصل في المقصود بالهدى
قال ابن الخطيب " رضي الله تعالى عنه " : الهُدَى عبارة عن الدلالة .
وقال صاحب " الكشاف " : الهدى هو الدلالة الموصّلة للبغية .
وقال آخرون : الهدى هو الاهتداء والعلم والدليل على صحة الأول أنه لو كان كونه الدلالة موصلة إلى البغية معتبراً في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء ؛ لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهتداء مُحَال ، وقد ثبت
" " صفحة رقم 275 " "
الهدى على عدم حال الاهتداء قال الله تعالى : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَ اسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى لْهُدَى ( [ فصلت : 17 ] أثبت الهدى مع عدم الاهتداء . واحتج صاحب " الكشَّاف " بأمور ثلاثة :
[ أوّلها ] : وقوع الضلالة في مُقَابلة الهدى ، قال تعالى : ( أؤلئك الَّذِينَ اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ بِ الْهُدَى ( [ البقرة : 16 ] ، وقال تعالى : ( قُلِ اللَّهُ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( [ سبأ : 24 ] .
وثانيها : يقال : مهديّ في موضع المدح كالمهتدي ، فلو لم يكن من شرط الهدى كَوْن الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهدياً مدحاً ؛ لاحتمال أنه هدي ، فلم يَهْتَدِ .
وثالثها : أن " اهتدى " مطاوع " هَدَى " يقال : هَدَيْتُه فَاهْتَدَى ، كما يقال : كسرته فانكسر ، وقطعته فانقطع ، فكنا أن الانكسار والانقطاع لَزِمَانِ للكسر والقطع ، وجب أن يكون الاهتداء من لوازم " الهدى " .
والجواب عن الأوَّلِ : أن الفرق بين الهدى والاهتداء معلوم بالضرورة ، فمقابل " الهدى " هو " الإضلال " ومقابل " الاهتداء " هو " الضلال " فجعل " الهدى " في مقابلة " الضلال " ممتنع . وعن الثاني : المنتفع بالهدى سمي مهدياً ؛ لأن الوسيلة إذا لم تُفْضِ إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم .
وعن الثالث : أن الائتمار مُطَاع الأمر يقال : أمرته فائتمر ، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه أمراً حصول الائتمار ، وكذا لا يلزم من كونه هذه أن يكون مفضياً إلى الاهتداء ، على أنه معارض بقوله : هديته فلم يهتد . ومما يدل علة فساد قول من قال : الهدى هو العلم خاصة أن الله - تعالى - وصف القرآن بأنه هدى ، ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم ، فدلّ على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم .
فصل في اشتقاق المتقي
والمتقي في اللغة : اسم فاعل من قولهم : وقاه فاتَّقى ، والوقاية : فرط الصيانة .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : التقيّ : من يتقي الشّرْك والكبائر والفواحش ، وهو مأخوذ من الاتقاء ، وأصله : الحجز بين شيئين .
" " صفحة رقم 276 " "
وفي الحديث : " كان إذا احمَرَّ البأسُ اتَّقينا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) " .
أي : إذا اشتد الحَرْبُ جعلنا بيننا وبين العدو ، فكأن المتقي جعل الامتثال لأمر الله ، والاجتناب عما نَهَاهُ حاجزاً بينه وبين العذاب ، وقال عمر بن الخَطَّاب لكعب الأحبار : " حدثني عن التقوى ، فقال : هل أخذت طريقاً ذا شَوْكٍ ؟ قال : نعم ، قال : فما عملت فيه ؟ قال : حذرت وشَمّرت ، قال كعب : ذلك التَّقوى " . وقال عمر بن عبد العزيز : التقوى تَرْكُ ما حَرَّمَ الله ، وأداء ما افترض الله ، فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير .
وقال ابن عمر : التَّقوَى ألا ترى نفسك خيراً من أحد .
إذا عرفت هذا فنقول : إن الله - تعالى - ذكرَ المتقي هاهنا في معرض المدح ، [ ولن يكون ذلك ] بان يكون متقياً فيما يتصل بالدّين ، وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات ، محترزاً عن المحظورات . واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصَغائر في التقوى ؟ فقال بعضهم : يدخل كما تدخل الصّغائر في الوعيد .
وقال آخرون : لا يدخل ، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكُلّ ، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوقّ الصغائر هل يستحق هذا الاسم ؟
فروي عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " لا يَبْلُغُ العَبْدُ درجة المتّقين حتى يَدَعَ ما لا بَأسَ به حَذَراً مما به بَأسُ " . وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنهم الذين يَحْذَرُون من الله العُقُوبَة في تَرْكِ ما يميل الهَوَى إليهن ويرجعون رحمته بالتَّصديق بما جاء منه .
واعلم أن حقيقة التقوى ، وإن كانت هي التي ذكرناها إلاَّ أنها قد جاءت في القرآن ، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة ؛ كقوله تعالى : ( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ( [ الفتح : 26 ] أي : التوحيد ) أؤلئك الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ( [ الحجرات : 3 ] ، ) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ ( [ الشعراء : 11 ] أي : لا يؤمنون .
وتارة التوبة كقوله تبارك وتعالى : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ ( [ الأعراف : 96 ] ، ) وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ اتَّقُونِ ( [ المؤمنون : 52 ] .
" " صفحة رقم 277 " "
وتارة ترك المعصية كقوله تعالى : ( وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( [ البقرة : 189 ] أي : فلا تعصوه .
وتارة الإخلاص كقوله : ( فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى لْقُلُوبِ ( [ الحج : 32 ] أي : من إخلاص القلوب .
وهاهنا سؤالات :
السؤال الأول : كون الشَّيء هدى ودليلاً لا يختلف بحسب شخص دون شخص فلماذا جعل القرآن هدى للمتَّقين فقط ؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي ؟ والمهتدي لا يهتدي ثانياً ، والقرآن لا يكون هدى للمتقين ؟
والجواب : أن القرآن كما أنه هدى للمتقين ، ودلالة لهم على وجود الصانع ، وعلى صدق رسوله ، فهو أيضاً دلالة للكافرين ؛ إلا أن الله تبارك وتعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين اهتدوا ، وانتفعوا به كما قال : ( إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( [ النازعات : 45 ] وقال : ( إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ( [ يس : 11 ] .
وقد كان عليه الصلاة والسلام منذراً لكلّ الناس ، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هُمُ الذين انتفعوا بإنذاره .
وأما من فسر الهُدَى بالدلالة الموصلة إلى المقصود ، فهذا السؤال زائل عنه ؛ لأن كونه القرآن موصلاً إلى المقصود ليس إلاَّ في حق المتقين .
السّؤال الثاني : كيف وصل القرآن كله بأنه هدى ، وفيه مجمل ومتشابه كثير ، ولولا دلالة العقل لما تميز المُحْكم عن المُتَشَابه ، فيكون الهدى في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن ؟
ونقل عن علي بن أبي طالب أنه قال لابن عباس حيث بعثه رسولاً إلى الخوارج : لا تَحْتَجَّ عليهم بالقرآن ، فإنه خَصْمٌ ذو وجهين ، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ذلك فيه ، ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به ، ونرى القرآن مملوءاً من آيات بعضها صريح في الجبر ، وبعضها صريح في القدر ؛ فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسُّف الشديد ، فكيف يكون هدى ؟
الجواب : أن ذلك المُتَشَابه والمُجْمَل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين - وهو إما دلالة العقل ، أو دلالة السمع - صار كله هُدًى .
السؤال الثالث : كل ما يتوقَّف كون القرآن حُجّة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه ، فإذا استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله - تعالى - وصفاته ، وفي معرفة
" " صفحة رقم 278 " "
النبوة ، فلا شَكَّ أن هذه المَطَالب أشرفُ المطالب ، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها ، فكيف جعله الله هدى على الإطلاق ؟
الجواب : ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء ، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء ، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشَّرَائع ، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول ، وهذه الآية من أَقْوَى الدلائل على أن المُطْلق لا يقتضي
" " صفحة رقم 279 " "
العموم ، فإن الله - تعالى - وصفة بكونه هُدًى من غير تقييد في اللَّفظ ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصَّانع ، وصفاته ، وإثبات النبوة ، فثبت أنّ المطلق لا يفيد العموم .
السّؤال الرابع : الهُدَى هو الذي بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره ، والقرآن ليس كذلك ، فإن المفسّرين ما ذكروا آية إلاّ وذكروا فيها أقوالاً كثيرة متعارضة ، ويؤيد هذا قوله : ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ( [ النحل : 44 ] .
وما يكون كذلك لا يكون مبيناً في نفسه ، فضلاً عن أن يكون مبيناً لغيره ، فكيف يكون هدى ؟ قلنا : من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المُتَعَارضة ، ولا يرجح واحداً منها على الباقي يتوجه عليه السؤال ، وأما من رجح واحداً على البواقي فلا يتوجّه عليه السؤال .
( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (
" الذين " يحتمل الرفع والنصب والجر ، والظاهر الجر ، وهو من ثلاثة أوجه :
" " صفحة رقم 280 " "
أظهرها : أنه نعت ل " المتقين " .
والثاني : بدل .
والثالث : عطف بيان .
وأما الرفع فمن وجهين :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف على معنى القطع ، وقد تقدم .
والثاني : أنه مبتدأ ، وفي خبره قولان : أحدهما : " أولئك " الأولى .
والثاني : " أولئك " الثانية ، والواو زائدة ، وهذان القولان منكران ؛ لأنه قوله : " والذين يؤمنون " يمنع كونه " أولئك " الأولى خبراً أيضاً .
وقولهم : الواو زائدة لا يلتفت إليه .
والنصب على القطع .
و " يؤمنون " صلة وعائد .
قال الزمخشري : " فإذا كان موصولاً كان الوقف على " المتقين " حسناً غير تام ، وإذا كان منقطعاً كان واقفاً تاماً " .
وهو مضارع علامة رفعه " النون " ؛ لأنه أحد الأمثلة الخَمْسَةِ وهي عبارة عن كل فعل مضارع اتصل به " ألف " اثنين ، أو " واو " جمع ، أو " ياء " مخاطبة ، نحو : " يؤمنان - تؤمنان - يؤمنون - تؤمنون - تؤمنين " .
والمضارع معرب أبداً ، إلاّ أن يباشر نون توكيد أو إناث ، على تفصيل ياتي إن شاء الله - تعالى - في غُضُون هذا الكتاب .
وهو مضارع " أمن " بمعنى : صدق ، و " آمن " مأخوذ من " أمن " الثلاثي ، فالهمزة في " أمن " للصّيرورة نحو : " أعشب المكان " أي : صار ذا عُشْب .
أو لمطاوعة فعل نحو : " كبه فأكب " ، وإنما تعدى بالباء ، لنه ضمن معنى اعترف ، وقد يتعدّى باللام كقوله تعالى : ( وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ( [ يوسف : 17 ] ، ) فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى ( يونس : 83 ] إلاَّ أن في ضمن التعدية باللام التّعدية بالباء ، فهذا فرق ما بين التعديتين . وأصل " يؤمنون " : " يؤأمنون " بهمزتين :
الأولى : همزة " أفْعَل " .
والثاني فاء الكلمة ، حذفت الولى ؛ لأن همزة " أفْعَل " تحذف بعد حرف المُضَارعة ، واسم فاعله ، ومفعوله نحو : طأكرم " و " يكرم " و " أنت مُكْرِم ، ومُكْرَم " .
وإنما حذفت ؛ لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان ، وذلك إذا كان حرف المُضّارعة همزة نحو : " أنا أكرم " ، الأصل : أأكرم بهمزتين ، الولى : للمضارعة والثانية : همزة أفعل ، فحذفت الثانية ؛ لأن بها حصل الثّقل ؛ ولأن حرف المضارعة أولى بالمحافظة عليه ، ثم حصل باقي الباب على ذلك طَرْداً للباب .
" " صفحة رقم 281 " "
يتبـــــــــــــــع
المصدر: شبكة الفرسان للعوم الشرعية