:بب:
أعظم أسباب المغفرة
الاستغفار له شأن عظيم ومكانة عالية، فهو كما بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: "يخرج العبد من الفعل المكروه إلى الفعل المحبوب، ومن العمل الناقص إلى العمل التامِّ، ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل، فإنَّ العابد لله، العارف بالله في كل يوم، بل في كل ساعة، بل في كل لحظة يزداد علمًا بالله وبصيرة في دينه وعبوديته، بحيث يجد ذلك في طعامه وشرابه ونومه ويقظته وقوله وفعله، ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية وإعطائها حقها، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، بل هو مضطر إليه دائمًا في الأقوال والأحوال، في الغوائب والمشاهد؛ لما فيه من المصالح وجلب الخيرات ودفع المضرات، وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية اليقينية الإيمانية".
وممَّا يبيِّن عظم شأن الاستغفار ورفيع مكانته أنه كثيرًا ما يأتي في النصوص مقرونًا مع كلمة التوحيد لا إله إلَّا الله التي هي خير الكلمات وأفضلها وأجلُّها على الإطلاق، كقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[محمد: 19]، وقوله: {أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ*وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} [هود: 3،2]، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6]، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} إلى قوله: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} [هود: 50-52]، وكقوله -صلى الله عليه وسلم- في كفارة المجلس: (سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلَّا أنت أستغفرك وأتوب إليك)، وكقوله -صلى الله عليه وسلم- عقِب الانتهاء من الوضوء: (أشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)، وكقوله -صلى الله عليه وسلم- في دعائه الذي كان يختم به الصلاة: (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخَّرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلَّا أنت)، والنصوص في هذا المعنى كثيرة.
وقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين التوحيد والاستغفار في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- المخرَّج في سنن الترمذي يقول -صلى الله عليه وسلم-: (قال الله –تعالى-: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغتْ ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرتُ لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشْرِك بي شيئًا لأتيتك بقُرَابِها مغفرة).
وهو حديثٌ عظيمٌ جامعٌ لأهمِّ وأعظم أسباب مغفرة الذنوب، حيث تضمن الحديث ثلاثة أسباب عظيمةٍ يحصل بها مغفرة الذنوب:
أحدها: دعاء الله مع رجائه، فمن أعظم أسباب المغفرة أنَّ العبد إذا أذنب ذنبًا؛ لم يرج مغفرته من غير ربه، ويعلم أنَّه لا يغفر الذنوب إلَّا الله.
الثاني: الاستغفار، فإنَّ الذنوب ولو عَظُمَت وبلغت من الكثرة عنان السماء، فإنَّ الله يغفرها إذا طلب العبد من ربه المغفرة.
الثالث:التوحيد، وهو السبب الأعظم للمغفرة، فمن فَقَدَه؛ فَقَدَ المغفرة، ومن جاء به؛ فَقَدْ أتى بأعظم أسباب المغفرة، ولهذا قال الله –تعالى-: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}[النساء: 48، 116]، فمن جاء يوم القيامة موحِّدًا؛ فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة.
فهذه أبواب الخير مفتوحةٌ، ومداخله مُشْرَعةٌ، ومناراته ظاهرةٌ، فنسأله سبحانه الهداية إليها والتوفيق لتحقيقها.