شرح رياض الصالحين(باب الإخلاص)

[size=24]الدرس الخامس

●تابع الحديث : ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) .

لما ذكر رسول الله أن الأعمال بحسب النيات وأن حظ العامل من عمله نيته من خير أو شر ذكر بعد ذلك مثلاً من الأعمال والأمثال التي صورتها واحدة ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النية،وكأنه يقول :سائر الأعمال على حذو
هذا المثال .


الهجرة : لغة : مأخوذة من الهجر ، وهو الترك .

وشرعاً : الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام ، كهجرة المسلمين إلى المدينة قبل الفتح وهجرتهم إلى الحبشة .

وقد أخبر النبي أن هذه الهجرة تختلف باختلاف المقاصد والنيات بها .

(هجرته إلى الله ) :أي يريد ثواب الله ويريد الوصول إلى الله أو يريد نصرة دين الله ورسوله ، أي العمل بسنته أو الدفاع عنها أو الدعوة إليها أو نشر دينه ، فالهجرة إلى الرسول تعني الآن الهجرة إلى شريعته ، وليس هجرة إلى شخصه ، لذلك لا يجوز أن يهاجر إنسان إلى المدينة من أجل شخص رسول الله ، لأنه تحت الثرى ، وإنما الهجرة إلى سنته وشرعه ، فهذا ما حث عليه الحديث .


هل الهجرة واجبة أم سنة ؟

قال العلماء :الهجرة واجبة على كل مؤمن لا يستطيع إظهار دينه في بلد الكفر ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وهذا كهجرة المسلمين من مكة إلى الحبشة .

وأما إذا كان قادرا على إظهار دينه ، ولا يعارض اذا أقام شعائر الإسلام فإن الهجرة لا تجب عليه ولكنها تستحب .


أقسام الهجـرة :

هجرة المكان ، وهجرة العمل ، وهجرة العامل

هجرة المكان : هو أن ينتقل الإنسان من مكان تكثر فيه المعاصي ويكثر فيه الفسوق وربما يكون من بلد كفر إلى بلد لا يوجد فيه ذلك .

هجرة العمل : وهي أن يهجر الإنسان ما نهاه الله عنه من المعاصي والفسوق .

قال النبي : ) المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه )

فاهجر كل ما حرم الله عليك سواء كان مما يتعلق بحقوق الله ، أو مما يتعلق بحقوق عباد الله ، فتهجر السب والقتل والشتم والغش وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم .

هجرة العامل : يجب هجرة الإنسان المجاهر بالمعصية حتى إذا هُجِر عرف قدر نفسه ورجع عن المعصية .

مثل: رجل معروف بالغش في البيع والشراء فيهجره الناس ، ولا يشترون منه ، فإنهم إذا هجروه رجع عما هو فيه ويتوب .

لكن قال العلماء : هجرة صاحب المعصية إذا كانت تضره فلا يحل هجره ، بمعنى أنك إذا هجرته يزيد ضعفه ويزيد

إقباله على المعصية فلا يحل هجره ، وكذلك قالوا : لا يحل هجره إذا كانت الهجرة لا تفيده بمعنى أنك إذا هجرته لكونه يقارف معصية ولكنه لم يتركها إذا هجرته ولن ينزجر فلا يحل لك هجرته لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث ، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) والهجرة التي لا تحل لك لأخيك وإن كان عاصياً هي هجرة الحقوق الواجبة عليك نحوه ، وهي حق المسلم على أخيه المسلم التي نص عليها الشرع .

أما هجرته بمعنى ترك المخالطة به خشية الوقوع في المعاصي أو خشية ضياع الوقت معه فيما لا ينفع مما يفسد القلب ، فهذا مطلوب شرعاً وليس منهياً عنه . فهذا الذي تكره مخالطته لسوء خلقه أو فساد قلبه إذا لقيته ينبغي ألا تعرض عنه وإنما تبدؤه بالسلام أو ترد عليه السلام إذا بدأك ، فلا تمنعه حقه كمسلم وإن كنت تبغضه في الله ، ولكنك تهجر مخالطته فيما سوى ذلك من باب إنكار المنكر عليه أو خوفاً على قلبك ودينك .

(ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) .

روى عن ابن مسعود قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها وكذلك نسميه مهاجر أم قيس .


إذا هاجر الناس فهم يختلفون في الهجرة :

الأول: منهم من يهاجر ويدع بلده إلى الله ورسوله ، أي إلى شريعة الله التي شرعها الله على لسان رسوله ، هذا هو الذي ينال الخير ولهذا قال : " فهجرته إلى الله ورسوله " أي فقد أدرك ما نوى .

الثاني : هاجر لدنيا يصيبها ، فمثلاً رجل يحب جمع المال فسمع أن في بلاد الإسلام مرتعاً خصباً لاكتساب الأموال ، فهاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام فقط لا يقصد أن يستقيم على دينه ولا يهتم لدينه إنما همه المال .

الثالث: هاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام يريد امرأة يتزوجها قيل له: لا نزوجك إلا في بلاد الإسلام ولا تسافر بها إلى بلاد الكفر فهاجر من بلده إلى بلاد الإسلام من أجل المرأة .

فمن هاجر إلى بلاد الإسلام حبا لله ورسوله ورغبة في تعلم دين الإسلام وإظهار دينه حيث كان يعجز عنه في دار الشرك ، فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله حقاً .

ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام ليطلب دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها في دار الإسلام فهجرته إلى ما هاجر إليه .

فالأول تاجر ، والثاني خاطب ، وليس أحد منهما مهاجراً .

وقوله : " فهجرته إلى ما هاجر إليه " ولم يقل: (فهجرته إلى دنيا يصيبها..)، تحقيراً لما طلبه من أمر الدنيا
واستهانة به حيث لم يُذكر بلفظه .

وسائر الأعمال كالهجرة بحسب النية الباعثة عليها كالجهاد والحج وغيرهما .

روى عن أبي هريرة : عن رسول الله : من تعلم علماً مما يُبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة (أي ريحها )

سلمت على روعه طرحك

نترقب المزيد من جديدك الرائع