(يوم تبيض
وجوه وتسود وجوه، فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما
كنتم تكفرون، وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون) صدق الله
العظيم [سورة آل عمران: 106 ـ 107]
أعلم أنني ألعب بالنار التي من الجائز
جدا أنها تحرقني، وأعرف أن هناك بعض المتربصين الذين سيصفونني برمز للثورة المضادة،
وأدرك تماما خطورة هذه الدعوة التي ربما يحاول البعض انتهازها لإهدار دمي..
ولعل أرحم هؤلاء المتربصين بي سيتهمني بالهطل والاستكانة، لكنني سأتوكل على
الله وأقولها ورزقي على الخالق العظيم.. أرجوكم سامحوا الرئيس مبارك ودعوه يقضي
البقية الباقية من عمره بدون تعذيب أكثر من هذا.
ونيابة عن قرائي الأعزاء
الذين تهدأ أعصابهم بسبابي سأتولى هذه المأمورية نيابة عنهم، سيقول قائل، ما هذا
البرود الذي تتحلى به، ألم تكتشف أننا عشنا أسوأ أيام حياتنا تحت إمرة تلك الزمرة
الفاسدة التي طالت رأس النظام وحتى قاعدته.. وسأجيب عليهم بلى
اكتشفت.
وسيقول آخرون هل هانت عليك أرواح الشهداء الأبرياء الذين قتلوا
لمجرد تعبيرهم عن آرائهم بالطرق السلمية، وسأرد عليهم والله ما هانت أرواح هؤلاء
الضحايا المكرمين، كما لم تهن روح خالد سعيد ورفاقه ضحايا جرائم التعذيب الوحشي
التي مارستها الأجهزة الأمنية الملطخة أيديها بدمائنا.
وسيسألني ثالث، وماذا
عن نهب ثروات البلاد وطحن عظام الشعب وإدخاله في ثالوث الفقر والجهل والمرض،
وسأجيبهم بأنني أذكرها جيدا بل أنني على المستوى الشخصي ممن أصابتهم لعنة هذه
العصابة التي حكمت البلاد 30 عاما عاثت فيها فسادا، كما أنني كـ"صحفي شارع" رأيت
بعيناي كيف يحرم الغلابة من العلاج وكيف يتسولون حقوقهم في إيجاد فرصة عمل ويكون
جزائهم الضرب بالكرباج كأننا في وسية أبيهم.
وسيصرخ رابع في وجهي، يا أحمق
كيف تطلب الصفح عمن لم يتق الله فينا ولم تشفع صرخاتنا في أن يمنحنا أدنى حقوقنا في
الحياة، وكيف ترجو الرحمة لمن صم أذنيه عن أنين شعبه ولم يسمع سوى أصوات الشياطين،
بداية من رئيس ديوانه وانتهاءً برغبات أبنائه التي سالت دموعه طلبا للعفو عنهم، رغم
أننا كلنا من المفترض أبنائه.
ولهؤلاء أيضا أقول أبدا والله لم أنس كل هذا،
فما زلت أتذكر شبابا في عمر الزهور وقد انتحروا مفضلين الموت على الحياة في ظل ذئاب
لا تأكل إلا لحوم البشر، ولم تغب عن عيني الأجساد المشتعلة بنيران اليأس من قدوم غد
أفضل، بل ما زالت ضحكات الزبانية تصم أذني وهم يقهقهون من هول جروحنا وشدة
بلاءنا.
وسيضع أحدهم إصبعه في عيني، محاولا تذكيري بملايين الفتيات والشبان
الذين فقدوا بريق الحياة بعد أن فاتهم قطار الزواج تحت وطأة العجز عن العثور على
حجرة تأويهم وبات قدرهم أن يقضوا حياتهم مكبوتي المشاعر محرومين من حقهم في تلبية
نداء الطبيعة ذلك الغول الذي يفترس أجسادهم ويلقي بهم إما في هوة الرذيلة أو العيش
كقطعان ماشية تم خصيها ليتحولوا إلى عبيد لا يحسون ولا يفرغون مشاعرهم.
ولهم
أيضا أقول أبدا ما نسيت هؤلاء، بل سأضيف إليهم أبناء العشوائيات الذين أجبروا على
التكدس في غرف إيواء وعشش لا تليق بالحيوانات، وكان فرضا عليهم شرب المياه الملوثة
والتزاحم في طوابير العيش من أجل الحصول على كسرة خبز أو الاستشهاد في
سبيلها.
و والله لم أنس المعتقلين الذين زج بهم في السجون وهم أبرياء ولفقت
لهم جرائم لم يقترفوها، ولا الكبت السياسي والاجتماعي ولا تزييف الانتخابات ولا
الاستهانة بإرادة الشعب على طريقة "خليهم يتسلوا"، ولا ولا ولا..
لكنني رغم
هذا أطالبكم بالصفح عن الرئيس السابق مبارك بعد استرداد جميع الأموال المنهوبة على
يد أسرته وأعوانه وتعالوا نحسبها معا، على فرض صدور حكم بسجن الرئيس مبارك 25 عاما
"وهذا أقل واجب"، فإن الأجل ربما لا يمهله أياما وتصعد روحه إلى بارئها ليوفى باقي
حسابه.
أما إذا صدر ضده حكم بالإعدام، فأعتقد أن هذا ربما سيكون أكثر راحة
له من العيش في وسط هذا العذاب الذي أعتقد أنه يلطم خديه بسببه كل لحظة، فمن منا لم
يقرأ عن دموع مبارك حين علم بقرار حبسه هو ونجليه، وامرأته في القريب العاجل، حين
قال للمحققين أرجوكم افعلوا بي ما شئتم لكن إلا أبنائي،.
ومن منا لم يقرأ
التفاصيل التي نشرتها إحدى الصحف عن محاولة نقل الرئيس من جنة أرضه "شرم الشيخ" إلى
أحد المستشفيات العسكرية، فما أن دخل عليه المكلفون بهذه المهمة حتى أصابته حالة من
التشنج العصبي مصحوبة ببكاء هستيري وتشبث بالسرير وقال لهم: "انتوا حتحبسوني".. فقد
تصور أنهم سيحملونه إلى السجن كما حدث مع ولديه علاء وجمال.
وانتقلت عدوى
البكاء إلى زوجته سوزان وصرخت فيهم: "كفاية كفاية أنتوا حتسجنونا".. فلم تجد
المجموعة مفرا من أن تتصل بمسئولين أعلى منها في القاهرة وتقرر بعدها أن يبقى مبارك
في مكانه حتى يمكن إقناعه بأنه سينتقل من مستشفى مدني إلى مستشفى
عسكري.
أعلم تماما أن هذه الدموع قد سبقتها صرخات ونحيب عشرات الملايين من
أبناء الشعب المعذبين، لكنني أدعوكم للصفح عنه ابتغاء مرضاة وجه الله تعالى، وإعلاء
لمبدأ الرحمة فوق العدل، وقبل كل هذا حتى لا يقال أن الخير نزع من قلوب
المصريين.
فالشهامة هي أن تضرب الظالم وهو واقفا على قدميه، وليس وهو منبطحا
على وجهه، ومبدأ الأخلاق يا إخواننا الكرام يقول "الضرب في الميت حرام".. وأرجوكم
لا يتهمني أحد بالعمالة على النحو التخويني الذي بتنا نمارسه ضد كل من يخالفنا
الرأي، فكل من يقول رأيا لا يرضي أحدا يتهم مباشرة بالعمالة والثورة
المضادة.
وأعيد وأؤكد مرة أخرى أنني لا أتولى مهمة الدفاع عن الرئيس السابق
ولا محاولة إلقاء طوق نجاة له، فالعبد الفقير إلى الله ربما ضمن أكثر من هاجموا
طاغوت وتجبر وفساد النظام السابق وهم في أوج قوتهم وجبروتهم، لكنني فقط لا أريد
تنحية قيمة نبيلة تعلي شعار "العفو عند المقدرة".