البصيرة : هي حالة من استكشاف الحقائق للبصير من المستبصر ( كون - إنسان - حدت ...) تتكشف أمامها حجب الغيب ويري البصير مالا يراه غيره ، ويسمع بما لا يسمع به غيره . وهي تشبه علم المستقبليات حديثا ، إلا أنها لا تحتاج إلي برهان أو حجة ؛ لأنها تتجاوز العقل بمراحل . وهي حالة وجدانية شعورية تدرك بالوجدان والشعور متخطية بذلك عالم الأسرار. وهي تعتمد أولا علي الإيمان الشديد بالله والإخلاص والولاء التام لله وحده والترفع عن زوائل الدنيا . الفراسة ( إن في ذلك لآيات للمتوسمين ) سورة الحجر الآية 75 قال بعض اهل العلم للمتفرسين ( ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول ( " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله "[1] قال أنس – رضي الله عنه –: قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم " ، [2] والفِراسة من التفرس بالشيء، كالتوسم، وهي خاطر يهجم على القلب، ويَثِب عليه وُثُوبَ الأسد على فريسته. هذا أصل اشتقاقها، وهي أنواع متعددة، وتختلف باختلاف الأشخاص، والأحوال، وقوة القلب، وصفائه، وقوة الإيمان، وضعفه، ومنها ما يتعلق بالمتفرس خاصة، ومنها فراسة الحكام والولاة لاستخراج الحقوق لأربابها، وقمع الظلمة. وقد ذكر ابن القيم - رحمه اللَّـه - في «الطرق الحكمية» من أنواع الفراسة وأفرادها أشياء عجيبة. وقال في «تاج العروس شرح القاموس» [3]: و الفراسة - بالكسر - اسم من التفرس، وهو التوسم، يقال: تفرس فيه الشيءَ إذا توسمه. وقال ابن القَطَّاع: الفراسةُ بالعينِ إدراكُ الباطن، وبه فسر الحديث: «اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور اللَّـه» . وقال الصاغاني: لم يثبت، قال ابن الأثير يقال بمعنيين: أحدهما: ما دل ظاهر الحديث عليه، وهو ما يوقعه اللَّـه تعالى في قلوب أوليائه ؛ فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات، وإصابة الظن، والحدس. والثاني: نوع يعلم بالدلائل، والتجارب، والخَلْق، والأخلاق، فتعرف به أحوال الناس، وللناس فيه تآليف قديمة وحديثة. وقال ابن القيم - رحمه اللَّـه تعالى - في «مدارج السالكين» في الكلام عـلى الفراسة : قال تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ}… فإن الناظر متى نظر في آثار ديار المكذبين، ومنازلهم، وما آل إليه أمرهم، أورثه ذلك فراسة، وعِبرة، وفكرة. وقال تعالى في حق المنافقين {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} ، فالأول: فراسة النظر والعين، والثاني: فراسة الأذن والسمع. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّـه - يقول: عَلَّقَ معرفتَه إياهم بالنظر على المشيئة، ولم يعلق تعريفهم بلحن خطابهم على شرطٍ، بل أخبر به خبرا مؤكَّدًا بالقسم، فقال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}، وهو تعريض الخطاب، وفحوى الكلام، ومغزاه. واللحن ضربان: صواب، وخطأ، فلحن الصواب: نوعان، أحدهما: الفطنة، ومنه الحديث «ولعل بعضَكم أن يكون أَلْْحَنَ بحجته من بعض» [4] ، والثاني: التعريض والإشارة، وهو قريب من الكناية، ومنه قول الشاعر: وَحَدِيثٍ أَلـَذّهُ وَهُــوَ مِمَّــا يَشْتَهِي السَّامِعُونَ يُوزَنُ وَزْنا مَنْطِقٌ صَائِبٌ وَيَلْحَنُ أَحْْيَا نًا وَخَيْـرُ الْحَدِيثِ مَا َكان لَحْنا والثالث : فساد المنطق في الإعراب. وحقيقته تغيير الكلام عن وجهه، إما إلى خطأ، وإما إلى معنى لم يوضع له اللفظ… فإن معرفة المتكلم، وما في ضميره من كلامه أقربُ من معرفته بسيماه، وما في وجهه. فإن دلالة الكلام على قصد قائله وضميره أظهرُ من السِّيمَاء المرئية. والفراسة تتعلق بالنوعين: بالنظر والسماع. وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور اللَّـه» ، ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ}. والفراسة ثلاثة أنواع: إيمانية : … وسببها نور يقذفه اللَّـه في قلب عبده، يفرق به بين الحق والباطل،… والصادق والكاذب. وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب، ينفي ما يضاده، يثب على القلب وُثـُوبَ الأسد على الفريسة،… وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيمانا، فهو أَحَدُّ فراسة،… وقال عمرو بن نجيد: كان شاه الكرماني حادَّ الفراسة لا يخطئ، ويقول: من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمّر باطنه بالمراقبة، وظاهره باتباع السنة، وتعوّد أكل الحلال، لم تخطئ فراسته… وقال ابن مسعود - رضي الله عنه- أفرس الناس ثلاثة: العزيز في يوسف، حيث قال لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } ، وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى: {اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْـرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} ، وأبو بكر في عمر - رضي اللَّـه عنهما- حيث استخلفه، وفي رواية أخرى: وامرأة فرعون، حين قالت: {قُرَّتُ عَيْـنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} . [5] وكان الصديق - رضي الله عنه- أعظم الأمة فراسة، وبعده عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ووقائع فراسته مشهورة، فإنه ما قال لشيء: (أظنه كذا) ، إلا كان كما قال، ويكفي في فراسته موافقتُه رَبَّه في المواضع المعروفة… [و قوله لابنه حين رشح له بنت بائعه اللبن"تزوجها والله ليوشكن أن تأتي بفارس يسود العرب" فانجبت عمر بن عبد العزيز] وأصل هذا النوع من الفراسة من الحياة و النور، اللَّذَيْنِ يهبهما اللَّـه لمن يشاء من عباده ؛ فيحيا القلب بذلك، ويستنير؛ فلا تكاد فراسته تخطئ. قال اللَّـه تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّـلُمَـاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا}.. الفراسة الثانية: فراسة الرياضة، والجوع، والسهر، والتخلي. فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بِحَسَبِ تجردها، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر، ولا تدل على إيمان ولا على ولاية، وكثير من الجهال يغتر بها، وللرهبان فيها وقائع معلومة، وهي فراسة لا تكشف عن حق نافع، ولا عن طريق مستقيم، بل كشفها جزئي، من جنس فراسة الولاة، وأصحاب تعبير الرؤيا، والأطباء، ونحوهم. وللأطباء فراسة معروفة، مِن حِذْقـهم في صناعتهم، ومَن أحب الوقوف عليها، فليطالع تاريخهم، وأخبارهم. وقريبٌ من نصف الطب فراسة صادقة، يقترن بها تجربة… الفراسة الثالثة : الفراسة الـخَلْقية، وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم واستدلوا بالخَلْق على الخُلُق؛ لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة اللَّـه، كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل، وبكبره، وبسعة الصدر، وبُعْد ما بين جانبيه على سعة خُلق صاحبه، واحتماله، وبسطته، وبضيقه على ضيقه، وبجمود العين وكلال نظرها على بلادة صاحبها، وضعف حرارة قلبه، وبشدة بياضها مع إشرابه بحمرة -وهو الشَّكَل- على شجاعته، وإقدامه، وفطنته، وبتدويرها مع حمرتها وكثرة تقلبها على خيانته، ومكره، وخداعه. ومعظم تعلق الفراسة بالعين ؛ فإنها مرآة القلب، وعنوان ما فيه، ثم باللسان؛ فإنه رسوله وترجمانه. وبالاستدلال بزرقتها مع شقرة صاحبها على رداءته، وبالوحشة التي ترى عليها على سوء داخله وفساد طويته، وكالاستدلال بإفراط الشعر في السبوطة على البلادة، وبإفراطه في الجعودة على الشر، وباعتداله على اعتدال صاحبه. وأصل هذه الفراسة أن اعتدال الخِلْقَةِ والصورة هو من اعتدال المزاج والروح، وعن اعتدالها يكون اعتدال الأخلاق والأفعال، وبحسب انحراف الخلقة والصورة عن الاعتدال يقع الانحراف في الأخلاق والأعمال، هذا إذا خُلِّيَتِ النفسُ وطبيعتها… وفراسة المتفرس تتعلق بثلاثة أشياء : بعينه، وأذنه، وقلبه. فعينُه للسيماء والعلامات. وأذُنه للكلام، وتصريحه وتعريضه، ومنطوقه ومفهومه، وفحواه وإشارته، ولحنه وإيمائه، ونحو ذلك. و قلبُه للعبور والاستدلال من المنظور والمسموع إلى باطنه وخفيه، فيَعْبُر إلى ما وراء ظاهره، كعبور النَّقَادِ من ظاهر النقش والسِّكة إلى باطن النقد، و الاطلاع عليه، هل هو صحيح أو زغل، وكذلك عبور المتفرس من ظاهر الهيئة و الدَّل إلى باطن الروح والقلب، فنسبة نقده للأرواح من الأشباح كنسبة نقد الصَّيْـرَفِي، ينظر للجوهر من ظاهر السكة والنقد… وللفراسة سببان: أحدهــما: جودة ذهن المتفرس، وحِدَّةُ قلبه، وحسن فطنته. والثــــاني : ظهور العلامات والأدلة على المتفرَّس فيه. فإذا اجتمع السببان، لم تكد تخطئ للعبد فراسة، وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة، وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر كانت فراسته بَيْنَ بَيْنَ. وكان إياس بن معاوية من أعظم الناس فراسة، وله الوقائع المشهورة، وكذلك الشافعي - رحمه اللَّـه- وقيل: إن له فيها تآليف. ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّـه - أمورا عجيبة، وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم. ووقائع فراسته تستدعي سِفرا ضخـما… إلى آخر كلام ابن القيم في «مدارج السالكين» . و العرب تعرف الفراسة و تعرف القيافة و الريافة و العيافة و هناك الاف القصص في الفراسه , اورد منها قصة واحدة لدلالتها على ان هناك فراسة تكتسب قال أبو نعيم في الحلية 9/143: قال محمد بن إدريس الشافعي خرجت إلى اليمن في طلب كتب الفراسة ، حتى كتبتها ، وجمعتها ، ثم لما حان انصرافي مررت على رجل في الطريق ، وهو محتب بفناء داره أزرق العين ناتىء الجبهة سناط ، فقلت له: هل من منزل ؟ فقال: نعم. قال الشافعي: وهذا النعت أخبث ما يكون في الفراسة ، فأنزلني ، فرأيته أكرم ما يكون من رجل ، بعث إلي بعشاء ، وطيب ، وعلف لدابتي ، وفراش ، ولحاف ، فجعلت أتقلب الليل أجمع ما أصنع بهذه الكتب إذا رأيت النعت في هذا الرجل ، فرأيت أكرم رجل ، فقلت: أرمي بهذه الكتب ، فلما أصبحت ، قلت للغلام: أسرج ، فأسرج ، فركبت ، ومررت عليه ، وقلت له: إذا قدمت مكة ، ومررت بذي طوى ، فاسأل عن محمد بن إدريس الشافعي ، فقال لي الرجل: أمولى لأبيك أنا ؟ قال: قلت: لا . قال: فهل كانت لك عندي نعمة؟ فقلت: لا . فقال: أين ما تكلفته لك البارحة ؟ قلت: وما هو ؟ قال: اشتريت لك طعاما بدرهمين ، وإداما بكذا ، وكذا ، وعطرا بثلاثة دراهم ، وعلفا لدابتك بدرهمين ، وكراء الفرش ، واللحاف درهمان ! قال: قلت يا غلام اعطه ، فهل بقي من شيء ؟ قال: كراء البيت فإني قد وسعت عليك ، وضيقت على نفسي . قال الشافعي: فغبطت بتلك الكتب ، فقلت له بعد ذلك: هل بقي لك من شيء ؟ قال: امض أخزاك الله ، فما رأيت قط شرا منك !