سـورة الزلزلة
بعد أنش حثَّنا ربُّنا في سورة العاديات على السعي
وراء معرفة ما سيكون عليه حالنا إذا نحن خرجنا من قبورنا
وقد جمعت بين أيدينا أعمالنا فصَّل لنا في هذه السورة ( سورة الزلزلة )
ما أجمله في السورة السابقة.
وبيَّن لنا أن ذلك اليوم يومٌ عظيم فكلُّ امرئٍ مرهونٌ بما قدَّم
فإن خيراً فخير وإن شراً فشرٌ.
وقد بدأ تعالى هذه السورة ببيان ما سيحدث في ذلك اليوم
فقال تعالى:
{ إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا }:
والزلزال:
هو الهزَّة العنيفة والاضطراب يتبعها تفرُّق الأجزاء وانفكاك الترابط بين الذرَّات
فالأرض كلها في قبضة الرحمن
وهي الآن مترابطة متماسكة الأجزاء
فإذا جاء أمر ربِّك وزُلزلت الأرض في ذلك اليوم العظيم
تفرَّقت أجزاؤها وزال هذا الترابط بين ذراتها
وعادت تلك الأنفس المجتمعة على بعضها متفرِّقة متفكِّكة ورجعت إلى أصلها.
( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ )
سورة الأنبياء (104).
ولكن ما الذي يتبع هذه الهزة والزِّلزال؟.
لقد بيَّن لنا تعالى ذلك بقوله:
{ وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا }
والأثقال:
جمع ثِقلْ والمراد بهم الناس الذين وارتهم الأرض تحت ترابها
وضمَّتهم في بطنها فهم أثقال الأرض لما بين أيديهم
من أعمال ثقيلة لهم إن كانت خيراً، وعليهم إن كانت شراً.
فإذا حدث ووقع هذا الزلزال فهنالك تُخْرِجُ الأرضُ هؤلاء من بطنها
وتجعلهم على ظهرها فقد انتهى الرقاد وانقضى وقت السبات.
وهنالك وعندما يخرج الإنسان من قبره وتُخرجه الأرض من بطنها، يُدهش لهذا ويتساءل عمَّا جرى ولذلك
قال تعالى:
{ وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا }
أي:
وما بالُ الأرض؟.
وما حدث فيها حتى اهتزَّت اهتزازاً
وزلزلت زلزالها وأخرجتنا من بطنها؟
وهنالك وبعد استفاقة الإنسان يعلم أنه صار في اليوم الموعود
يوم الجزاء على الأعمال الذي كان حدَّثه عنه ربُّه في الدنيا.
وأن الأرض إنما زُلزلت وأخرجتْ من فيها بأمر من الله تعالى.
ثم إن الأرض بعد ذلك ستتحدَّثُ لك بما كنت فعلته على ظهرها.
فكل عملك محفوظٌ وحقائقه ماثلةٌ لا تنمحي ولا تزول.
فإذا كان يوم القيامة أوحى الله إلى الأرض بأن تحدِّث بما جرى عليها
وبما كان فعله الإنسان على ظهرها خيراً كان أو شراً
ولذلك قال تعالى:
{ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا }.
ولكن ماذا يكون عليه حال الناس بعد وجودهم في هذه الحياة الثانية.
إنهم سيكونون أشتاتاً
أي: متفرِّقين فكل امرئٍ قد أهمَّته نفسه وشغله أمره
والكلُّ يصدرون ويسيرون ليروا أعمالهم
تلك الأعمال التي كانوا قدَّموها في الحياة الدنيا
وإذاً فيوم القيامة إنما هو يوم رؤية الأعمال
ويوم الجزاء على الأعمال وما هذه الحياة الدنيا إلا سوق يتزوَّد فيه الإنسان
ما شاء من الأعمال
وفي ذلك اليوم الآخر يرى كل امرئ ما جمع وقدَّم
وقد بيَّن لنا تعالى ذلك بقوله:
{ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ }.
ومن رحمة الله تعالى وعظيم رأفته أن شوَّقنا إلى فعل الخير
وحذَّرنا وأنذرنا من فعل الشر
فقال تعالى:
{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ }
أي: فمن يعمل منكم يا عبادي في دنياه هذه خيراً مهما كان قليلاً ولو كجزء صغير
من هذه الذرَّات التي نراها تطير في شعاع الشمس
فإنه لا بدَّ له من رؤية ذلك الخير والجزاء عليه.
{ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }:
وإن كنت فعلت في دنياك شراً ولو كمثقال ذرَّة فلا بدَّ لك من أن تشهده وتراه
وإن كل عملك مُسجَّل مكتوب
وحقيقته محفوظة لا تزول وستُجزى عليه إن شراً فشر، وإن خيراً فخير.
والحمد لله رب العالمين.
هذا الشرح من كتاب تأويل جزء عم لفضيلة العلامة الكبير محمد أمين شيخو